د. محمد عبدالله العوين
أصابني إحباط شديد بعد رفض ابن عقيل رئيس النادي الأدبي بطاقة العضوية؛ لأنها -حسب قوله- لا تمنح إلا لشخصيات أدبية كبيرة ولها مؤلفات أو نشاط أدبي مؤثر، وكان الحصول على بطاقة العضوية لشاب صغير ما زال طالباً في الجامعة حلماً ومدعاة إلى الاعتزاز بأنه محسوب على الأدباء، ويا له من شعور جارف بالفخر لو تحقق؛ لكن هذه الصدمة النفسية نبهتني إلى ضرورة العمل الجاد واستمرار محاولات الكتابة والنشر.
ومضت سنوات؛ فإذا أنا أهاتف أبا عبد الرحمن أطلب منه أن يكون ضيفاً على برنامج «بين ذوقين» فرحب وهش وبش وقال: من هو الضيف الثاني؟ قلت: اختر واحداًَ من ثلاثة. قال: عبد الله نور.
ودعانا في ليلة جميلة من ليالي الأدب والفن والكرم إلى «دارة ابن حزم» منزله في الملز -آنذاك- فمررت على عبد الله نور في منزله مقابل مستشفى «الشميسي» في الجانب الأيسر للمتجه غرباً مع شارع البديعة، لأن عبد الله -رحمه الله- لا يعرف قيادة السيارة، ولذلك نتنقل به نحن أصحابه من مكان إلى مكان حسب المناسبات والزيارات، وهو راكب حتماً مع أول صديق يقابله، ومكافأة التوصيل نقاء القلب وسماحة الوجه ودماثة الخلق ولطف الحديث وتنوعه وعبقرية الذاكرة.
تجلى الضيفان في الحوار، كنزان علميان وثروتان أدبيتان، إن ذهبت إلى التراث فأنت أمام موسوعتين كبيرتين، وإن أتيت إلى الحاضر الأدبي فأنت أمام ناقدين كبيرين، وإن رغبت في الاختيار والتذوق الفني فأنت أمام ذائقة رفيعة ممتازة لا يمكن أن تتنازل عن مقاييسها الفنية أو تتعجل في إطلاق الأحكام.
ودار الحوار عن ابن حزم والمذهب الظاهري، وفقهه، والمحلى والمجلى وطوق الحمامة والمفقود من مؤلفاته، والحداثة الشعرية، والمرأة، وثنائية القديم والجديد، وصراع الأجيال، وغلمان الصحافة، والفن الغنائي وأساطينه وأم كلثوم التي لا يرى عبد الله نور لها مثيلاً لا في القديم ولا في الحديث، وأم الوليد «نجاة الصغيرة» التي يغرم ابن عقيل بفنها ولا يرى لها شبيهاً أو مماثلاً في صوتها الهامس الآسر، وفي إحساسها الرقيق بالكلمة واللحن، وفي طلتها الأخاذة وغنجها الأنثوي الطاغي، وقد كتب فيها ديواناً أسماه «النغم الذي أحببته» كفاه الله من كح وبح! كما دعا له، وبحثا طويلاً في ملف «الثقافة والفنون» ينيف على مائة صفحة.
وعلمت أن الشيخ الأديب الرقيق قد جمع نسخ الديوان وأحرقه؛ لكنه على أية حال يبقى فاصلة إبداعية في تاريخه الشعري والفكري، ولعله رأى أن يوجه جهده كله إلى قضايا الفكر والفقه والتفسير والتاريخ والنقد الأدبي، ويصف كتابه «هكذا علمني وورد زورث» مرحلة الأدب والفن لديه قبل انصرافه عنها إلى القضايا الجادة. يتبع..