كان اجتماع البريطاني مارك سايكس بالفرنسي فرانسوا جورج بيكو في باريس غداة مرض الدولة العثمانية سنة 1916م حدثاً تاريخياً لا يقل سوءاً عما جرى للعالم العربي من نكسات، حيث اجتمع الجشع والطمع المؤدي إلى التخلف القسري أكثر من سبق وسرقة لمقدرات الشعوب جهاراً نهاراً بل سرقة عمر الأوطان وعقولهم بلصوصية فاقدة للأسس الأخلاقية بعد أن مات من عُوّل عليه حماية المصالح ! ونظرية المؤامرة وإن كانت تغيب أحياناً في المنعطفات التاريخية إلا أنها هنا شاهدة على ذلك وهذه كانت الأكثر ثقباً في جدار العرب والتي حصدوا منها تراجعاً فكرياً وعلمياً أعقبه تخلف صناعي واقتصادي نعاني منه حتى يومنا هذا، وكل ذلك كان احد أسبابه الرئيسة الترهل الجغرافي للدولة العثمانية ترهلاً كان فيه الإهمال البيّن في نواحي الحياة جميعاً كعلامة بارزة للدولة المركزية ناهيك عن الضعف في أخر أيامها !
لخص ذلك السلطان عبد الحميد حين قال : (إن ضعف الدولة العثمانية نابع من اتساع رقعتها فاجتماع كثير من الشعوب تحت راية واحدة جعل إدارة هذه الشعوب أمرا صعبا)، لذلك من المستحيل أن تكون التنمية الاجتماعية والتقدم التقني وتنمية الوعي الفكري والثقافي من أولويات الدولة بل حتى من ضمن استراتيجياتها وإن حاول أيضاً السلطان عبد الحميد الثاني جاهداً في إنقاذ ما يمكن إنقاذه بالتفافة سريعة للوضع الاجتماعي والفكر العربي عبر الإصلاح والمساعدات، ولكن كل ذلك جاء متأخراً بعد أن كان النظام السياسي العثماني من قبل يؤثر التخلف والرجعية الفكرية والاجتماعية والجهل الذي هو ضد العلم في كل الوطن العربي حتى يسهل عليه التحكم بمقدراته البشرية والطبيعية، فكان اختزالاً توارثياً عبر القرون الأخيرة صُبّ في مصلحة الأمة التركية فقط التي ازدهرت الحياة فيها بكل أنواعها وكان خراج العرب يأتيها تباعاً بينما تغط هي في سبات أعقبه فراغ سياسي وفوضى غير منظمة سهل للذئاب افتراس الحملان . لم يكن المفكرون العرب والثقافيون في معزل عن ذلك ولكن كانت أصواتهم ضعيفة لضعف الإمكانات المتوفرة مع قلة فيهم، حيث إن الأتراك أرادوا العرب بعيون عمياء وكذلك كان المستعمر وإن اختلف في رؤيته بالتأثير الفكري بواسطة التغريب وذلك عن طريق طرح الأفكار الحداثية المؤدلجة والمفاهيم الغربية كالديمقراطية والحرية وغيرها كما يريدونها، فأصبحنا فيها مثل حكاية الغراب ومشيته فقادنا ذلك إلى هزيمة الذات والإحباط واليأس والنقد السلبي الذي حمده المستعمر الجديد ، وحتى القومية التي عَوّل عليها المثقفون لم تأتِ أكلها وإن أيدها الأوروبيون لغرض استبدال الفكرة الإسلامية ولسهولة تفكك الدولة إلى قطع متجاورات من الدول فكان لهم ذلك ! حتى إذا ذاب الثلج وبان المرج أخذوا بقطع دابر كل منادٍ لها وبتر كل لسان، ونفي البعض لأنهم يعلمون بثقة مدى قوة العرب كدولة واحدة بمقدراتها ولأن القومية شعار ودثار وإن كان بعض الذي ينادي بها له غرض آخر في النفس كاليازجي وبطرس البستاني ويوسف أكرم، إلا أنها أيضاً كانت مشتتة وغير واضحة الرؤى لعدم الاتفاق على شعار حقيقي يؤدي إلى نتيجة واحدة لأن هؤلاء كانوا يتخوفون من المد الإسلامي فنادوا بالعروبة العلمانية كصيغة مقبولة تكون وسط كأقلية مسيحية، فكانت الازدواجية التي هيأت لصعود الأطماع السياسية وسط تجربة مهلهلة وضحلة في الانتخابات غذّت بذلك صراعات داخلية حتى يومنا هذا .
** **
- زياد السبيت