د. عبدالله أحمد حامد
حينما كان رئيس نادي الأحساء الأدبي الأستاذ الدكتور ظافر الشهري يحدث ضيوف ملتقى «جواثا» الخامس عما فعلته «أسرة الجبر» من عطاء نادر ، وبذل وافر ، ونحن متجهون لتلبية دعوة هذه الأسرة المباركة لضيوف الملتقى ، كنت أتساءل عن السبب الذي جعل هذه الأسرة الكريمة تدعم المحتاجين بمئات المساكن في الأحساء ، وتبني لمرضى «الفشل الكلوي» مباني مجهزة بأحدث الأجهزة للغسيل الكلوي بملايين الريالات ، وتقيم المجمعات التعليمية بأرقى التجهيزات وأحدثها ، وتهدي مثقفي الأحساء ومبدعيه ذلك المبنى النموذجي الفاخر لناديها الأدبي الذي يليق بتاريخها الثقافي العريق ، وبمبدعيها ومثقفيها النوعيين على مستوى الوطن العربي ، داعمة بالفعل قبل القول ، في صورة نادرة حد الدهشة !
فكرت ملياً وأنا أرى علامات الأدب والفضل والوقار ترتسم على وجوههم ونحن جالسون ضيوفا في مجلسهم العامر ، حيث تقرأ النبل في وجه شيوخهم الكبار ، كما تراه بذات البهاء في وجوه الرجال والشباب الباسمة في أدب ، والمرحبة في دأب .
طوال جلستنا الجميلة لديهم لم يتحدث أحد منهم عما بذلوه ، ولم يعرضوا لنا الإحصاءات والأرقام التي تدل على حجم المنجز ، وشموله ، ولم يقدموا صورا عن منشآتهم الخيرية الضخمة ، وآثارهم البذلية الكبيرة ، وأشهد أنه كان من حقهم المشروع أن يبينوا ، وكان من واجبنا الموضوعي أن نستمع ، فإن تبدوا الصدقات فنعما هي ! ولكنهم آثروا بقاء الفعل، وشاهد العمل ، وكفى بهما شرفا وفضلا ؛ حين صمتوا أدبا ، كما أنفقوا حبا ، وما أجمل الإنفاق والبذل حينما لا يعقبه من ولا أذى وما أنبله وأجله أيضاً حين يعلن ويقال ! ألم يقل جل ذكره: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } (262) سورة البقرة.
كان «الجبريون» يرحبون ، ويباشرون ضيوفهم في أدب لاحظه الزملاء ، وتحدثوا عنه كثيرا ، ونحن نغادر الأسرة بعد أن قدمت لنا الجلسة درسا أثيرا في دلالاته وعلاماته التي تتجاوز حدود المكان ؛ لتصل إلى أعمق القيم الإنسانية الخيرة المباركة التي تعطي عطاء لا يشوبه تفاخر أو تكاثر ! ولا تستطيع النفوس الشاكرة المقدرة أن تعبر عنه كما ينبغي له .
لم أر فيهم «هياط» الطارئين على النعمة ، أو ألحظ استكبار المترفين وتنحنحهم وهم يتحدثون عن جبال الصخر التي حفروها ، والمسافات التي قطعوها ، وهي لا تتعدى طفرة جمعوها في غفلة من الزمان والمكان ، وتوار للضمير اليقظ أحيانا ، والنفس المسائلة .
كان أدب «الجبريين» وتواضعهم يقول لي في غير تردد : إن صورة الغني المتفاخر ، والواجد الجاحد ليست كل المشهد ، ففيه الباذل الصامت ، والمنفق المتواضع ، وشتان وأيم الله ما بين الصورتين ، وشكرا لهم أن كشفوا لنا جانب الصورة الأبهى والأجمل .
وعودا على بدء لم يبدأ ، ومبتدأ لا ينتهي فقد وصلت وأنا أتأمل الحالة « الجبرية» إلى أن سبب ذلك الإنفاق كامن في أنه هبة من الله ، وتوفيق لهذا الأسرة ، وعاجل بشرى لها حين سلكت الطريق الذي لا يسلكه إلا الموفقون بنور من الله ، الذين زكت أرواحهم ، وهفت نفوسهم إلى ما عند الله من الأجر والمغفرة والرحمة ، فراحوا يتلمسون حاجة إخوتهم ليس فقط من المحتاجين والفقراء والمرضى ؛ بل والمثقفين أيضاً ، شعورا بواجبهم الديني والحضاري والوطني تجاه مدينتهم بل «معشوقتهم» الأحساء ؛ رغبة في الأبقى والأدوم عند الله ، ووفاء لأمانة الاستخلاف في المال .
وسأظل مقتنعا أن لتنوع العطاء دلالات ، وإن لحجمه إشارات تدل على أنهم تجاوزوا كثيرا من تنظيرات رجال الأعمال لدينا إلى الفعل ، واستبدلوا بالقول السهل الفعل الحاضر الشاهد ، وكنت وأنا في مجلسهم العامر استحضر هذا الأمر ، وأسأل ذات السؤال الموضوعي الأكبر : أين رجال الأعمال ومؤسسات المال وبنوكه في بلادنا من فعل هذه الأسرة المباركة ؟ ولئن كنت سأستثني مجموعة منهم تعمل وتقدم لمجتمعها رغبة في الأجر ، وقياما بالواجب ؛ فإني سأتجه بالسؤال نحو الكثرة الكاثرة التي أحجمت وتقاعست وتخاذلت ! وهو سؤال يبعث الأسى ، وينثر الشجا ! ويثير أسئلة كثيرة عن حق الفقير والمسكين والمريض ! ولن أقول حاجات العلم الثقافة ؛ فمن علم عن حاجات الفقراء والمرضى ، وران الشح على نفسه ؛ فلن يلتفت لمشروعات حضارية علمية وثقافية !
«أسرة الجبر» في غير مبالغة ولا تزيد : رقم دال وفاعل في ساحات البذل والعطاء وكفى بذلك فضلا ونبلا وحسنا ، وما أصدق ما قال أبو العتاهية :
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا
وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
إي وربي ، ما أحسنهما ! وما يلقاها إلا من وقاه الله شح نفسه ، وحسن أولئك طريقا نبيلا ، ومنهجا قويما.