كنت قد فتحت موضوع دراسة علمية مع شخص مهتم بالشأن العام فى جانبه التنموي والبلدي تحديدا ،كان الرجل تائها بين ادبيات الخطاب القبلي ومتطلبات حضوره وبين التنمية ومستلزمات دراستها وإتمامها، فى الوقت ذاته كان ينشد التغيير الإيجابي فى ذاته وفي مجال الخدمة الذي يحتويه عملا وأملا وطموحا.
شجعتني مبادرته للحديث عن بعض الأمور التى أجيدها فهمًا وممارسة واستشرافا ،كان الرجل يستمع باهتمام ما لبث ان اصبح مستمتعا بالحديث وكأنه ضالته التي ما فتئ البحث عنها.
كان الموضوع قاب قوسين او أدنى من ان يحسم باتجاه خطتي التي طرحتها، وفجأة انقلب الحال وتغير الرجل بفعل رأي مخالف ،قد يكون صاحبه حكم على شخص المفكر قبل ان يحاكم الفكرة ومنطقيتها!.
إنها ثقافة التوجس والشك التى نشأنا عليها والتى كانت وما زالت اطارا يؤطر نياتنا وأعمالنا وما نرومه من الآخرين وما يريدونه منا.
التوجس فى دنيانا صادر الكثير من شواهد حياتنا المضيئة، وحرمنا متعة التواصل مع الذين نتشارك وإياهم الثقافة والأرض والتاريخ، نحن نؤطر كل بادرة طبيعية للتواصل أو العمل اوالتغيير بفكرة التوجس ويظل السؤال: ماذا يقصد ؟ هو المنطلق الذي نبدؤه فى قراءة من حولنا، وهنا تبدأ عزلتنا عن الحياة وشعورنا بالغربة تجاه أنفسنا قبل أن نكون غرباء فى عيون الآخرين. عوامل كثيرة عززت هذا الشعور لعل أهمها حالة الاكتفاء المادي التى نعيشها فى حياتنا هذا الاكتفاء والشبع يجعل الواحد منا متقوقعا على ذاته ورؤاه وأفكاره، ليست هناك حاجة تدعوه للتفكير او الاستزادة من معارف الآخرين وتجاربهم.
الملاءة المالية تجعل بعضهم معزولا ومهووسا بفكرة المال يصنع كل شيء، وهنا يسقط الإنسان ويصبح مجرد أيقونة دراهم تحركها المصلحة وتحكمها المنفعة مع النفس والآخرين.
أمرآخر قد يكون عدم إيماننا بفكرة تبادل المنافع مع الناس، هذا التبادل لا يقتصر على البيع والشراء وما يدور فى فلكهما ،فتبادل المنافع قد يكون فى عقد صفقات فكرية أو تبادل معلومات ومعارف تنقل المجتمعات وأناسها الى فضاءات أرحب من الخبرات والخيرات والانتاجية.
بعض البشر يملك المال والبعض يملك الموهبة والفطنة، فإن تلاقحت قدراتهم أصبح لدينا منتجا إنسانيا يسمو بالإنسان وحياته ومرحلته، وعندما ينعزل أحدهما عن الآخر، تخسر الانسانية مشاريع خيرة نيرة يمكن ان تضيف الخير والرخاء لحاضرها ومستقبلها.
بعض الممتلئين مالا فقط يظنون ان الحياة طوع أمرهم، وأن الآخرين مجرد محطات تزودهم بما قد يحتاجونه من زاد يعينهم على مواصلة ركضهم النهم باتجاه الزيادة، ونسوا ان الريادة ليست مالا تحوزه كبائع ومشتر بل هي فى الحقيقة تكامل بين مفكر ومثقف من جهة وبين موسر وموهوب يستطيعان أن يختزلا الزمان ويصلا قبل غيرهما الى مدارات ارحب ومزارات اكثر نفعا وشهرة ونماء.
من الموسرين من يعيش الفقر فى نفسه شعورا وخوفا وفاقة، هذا الشعور يجعله معزولا عن الخير وأهله، والأسباب كثيرة قد يكون أكثرها حضورا هو التوجس والخوف من المستنيرين،لكون حضورهم فى ادبيات هؤلاء الموسرين دائما يكون مسبوقا بماذا يريد؟ وماذا يعني؟،وكلا السؤالين ترتكز عليهما ثقافة التوجس.
** **
- علي المطوع