محمد بن عبدالله آل شملان
ليس الإعلام -كما هو معروف- مجرد ما يُشاهد في التلفاز أو ما يُذاع في الراديو أو ما يُقرأ في الصحف والمجلات في مجال السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد أو غيرها من المجالات، بل هو بالإضافة إلى ذلك كله نمط في الحياة والسلوك والتفكير، فوسائل التواصل على أهمية ما تشكِّله وما تعكسه وما تعبّر عنه ظاهرة اجتماعية من ظاهرة أشمل وأعم هي الظاهرة الإعلامية.
ولست معنيّاً في هذه المقالة الموجزة باستعراض تعريفات الإعلام أو التنقيب عن جذوره المعرفية والسلوكية، فحسبي أن أشير إلى أن الحديث عنها يمتد ليشمل كل نسيج الحياة في مرحلتها التاريخية الحضارية ببنيتها الأساسية المبنية على عناصر عديدة كالتطور الاقتصادي والاجتماعي.
والمملكة العربية السعودية في مسيرتها التطويرية منذ أن عمل الرائد الأول على وضع لبنات الدولة العصرية كمنطلق لإقامة البنيان الحضاري، وهي تخوض معركتها الإعلامية بوصفها المعركة الأساس في تحديد نهجها كوريثةٍ رئيسية لحضارة عريقة امتدتْ في أعماق التاريخ، ولم يكن ذلك ليغيب عن خاطر الملك المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن - طيّب الله ثراه - والذي يتتبع مراحل جهاده من أجل جلاء الوجه العصري لدولته الفتية تتكشف له الصورة بوضوح، لقد أراد أن يبدأ مشروعه بإرساء دعائم إعلامية راسخة تتمثّل في القاعدة العقدية الإسلامية التي ناضل من أجل تجذيرها في عمق الفكر والوجدان، فكانت الدعوة إلى التوحيد هي الأساس في بناء الدولة، وبعد أن اطمأن إلى ذلك تفرّغ لمعركة التطور والتنمية، وهي لم تكن مجرد خوض لصراع تقليدي مع الجهل والفقر، بل مع ظواهر إعلامية ضربت في التربة الاجتماعية، وهي المعركة الأشرس والأصعب.
وقد عانى عناءً شديداً لأن استبدال إعلام بأخرى ليس بالأمر الهيِّن أو اليسير، إنها أمور راسخة في أعماق النفس والوجدان، ولذلك كان لا بد من التدرج تماشياً مع منهج الإسلام في التعامل مع الظواهر الاجتماعية والثقافية والإعلامية، ولما كانت الحياة المعاصرة قد انطوتْ على تعقيدات عميقة نظراً للتطور الهائل في وسائل العيش وتقنيات الاتصال وآليات التنمية فإن أي انتصار في هذا المجال يعتبر ظفراً في معركة حسمها يعتمد على الصبر والرأب وطول النفس.
ولا نغالي إذا قلنا إن الصراع مع ظواهر التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والإعلامي يشكل معركة القرن التي خاضها الإعلام العربي برمته، وإن تمظهرتْ هذا الصراع في أشكاله الحيّة قد تبلورت في ترسيخ سمة المعاصرة دون التخلّي عن الهوية الأساسية للأمة ممثلة في الأصالة الإعلامية، وإنَّ ذلك نجده فيما أسفر عنه هذا الصراع من تماسك تجلّى في الملامح الرئيسة للإعلام العربي كما تجلّى في وطننا الكبير (المملكة العربية السعودية)، فقد نجح في معركتها التي هي معركة الهوية العربية الإسلامية كما هي معركة الانفتاح على منجزات العصر بكافة أشكالها وظواهرها.
لذلك لم يكن اختيار الرياض عاصمة للإعلام العربي 1018-2019م من قبل مجلس وزراء الإعلام العرب في دورته العادية الـ49 عشوائياً أو خاضعاً لاعتبارات غير موضوعية، بل كان تجسيداً للوجه الإنساني لإعلامنا العربي في أصالته ومنجزه العصري الراهن: جوهر ثابت عقدي إسلامي ووجه عربي يجسد ملامح الهوية التاريخية والإعلامية وانفتاح على منجزات أخرى دون معاناة من عقد الاستلاب أو مركب النقص، ومسايرة لإيقاع العصر في نبضه السريع وهذا كله يحتاج إلى وقفات تفصيلية تجلو ملامحه.
ولكن حسبنا في هذه العجالة أن نومئ إليه مجرد إيماءة، ويكفينا أن نشير إلى أن الرياض قد تحولت في العقود القليلة الماضية إلى خلية نشاط إعلامي عربي مما يؤهلها لأن تكون بيت الإعلام العربي ومنطلقها إلى منتصف الألفية الثالثة، إنها بما تهيّأ لها من إمكانات مادية وبشرية ومركز سياسي وحضاري مرموق وإرادة تاريخية، وقبل هذا وذاك قيادة واعية ذات حسٍّ تاريخي متقدم لجديرة بهذا الشرف، وهذه المكانة.