أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبوعبدالرحمن: محبة الرب جل جلاله ليست تباكياً، ولا أشعاراً تتلى بأصوات عذبة، ولا مشية تجاذب؛ ذلك أن من علم محدوديته وضعفه في هذا الكون؛ ثم علم عظمة ربه، ولطفه.. ثم تعامل مع ربه بما يريده منه شرعاً: فإنه سيجنح قلبه شوقاً ومحبةً لربه الذي ييسر عليه إذا أعسر، ويفرج همه إذا كرب، ويغنيه إذا عال، ويؤمنه إذا خاف، ويصبره إذا خارت قواه، ويشفيه إذا مرض، ويفرحه إذا حزن؛ بل يفرحه بلقاء ربه إذا عاين الموت، وجزع الجبارة من فراق غرور الحياة.. إن صحة العقيدة تثمر سلامة السلوك؛ وهما ينتجان سعادة الحياة.. وعندما يدخل الوشب في العقيدة، ويتشتت الشمل، ويتساقط السلوك؛ فيظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، وتجدب الحياة فلا غذاء ولا دواء، ولا برد يقين، ولا راحة نفس؛ وإنني مستشهد للقارئ الكريم بمدة تاريخية هي نموذج لغيرها بأوقات البؤس حينما يكون الوشب في العقيدة؛ فلقد ذكر ابن كثير وابن العماد وغيرهما رحمهم الله تعالى من أحداث عام 260 هجرياً رحيل أهل البلدان من بلدانهم؛ لغلاء المعيشة، وذكروا أن كر الشعير الذي لا يأكله اليوم إلا الحيوانات بيع في بغداد بمئة وعشرين ديناراً.. وفي أول القرن الرابع الهجري سنة 324 هجرياً اشتد الجوع، وكثر الموت؛ فمات بأصبهان وحدها نحو مئتي ألف، وكثر الفقر والمرض، واستغلثت الدواب.. ذكر ذلك ابن العماد في (شذرات الذهب).
قال أبو عبدالرحمن: اهتديت إلى هذه الأحداث وأنا أقرأ عن مولد (الأشعري)، ووفاته في مقدمة الشيخ (عبدالله شاكر البنهاوي) لرسالة الأشعري إلى أهل الثغر رحمهم الله جميعاً.. إن هذه المدة البائسة هي ظرف التمزق السياسي؛ وهي ظرف التمزق العقدي، والبعد عن عقيدة السلف؛ وإنما نجاة المتمسكين بالعقيدة في ذلك المجتمع البائس: كانت القناعة والرضا.. كان أهل التقوى يستعينون على الفقر والغلاء بالله؛ ثم بالتقشف الذي تطبعوا عليه في المدة التي كان فيها كر الشعير بمئة وعشرين ديناراً، وكانت نفقة أحدهم لا تزيد على 17 درهماً في السنة؛ والدرهم في ذلك الوقت نصف دينار.. قال الدكتور (عبدالرحمن بدوي) رحمه الله تعالى عن الدرهم: وأعلى قيمة بلغها حتى منتصف القرن الثالث الهجري تقوم بين 2.91 و2.95 جراماً من الفضة.. قال ذلك وهو يتحدث عن نفقة الإمام (أبي الحسن الأشعري) المقدرة بسبعة عشر ردهماً؛ أي ثمانية دنانير ونصف دينار؛ أي ما يقرب من قيمة نصف عشر كر من شعير؛ أي ثلاثة أعشار وقر حمار من الشعير.. قال الزبيدي: الكر ستة أوقار الحمار؛ أي ستون قفيزاً؛ والقفيز ثمانية مكاكيك؛ والمكوك صاع ونصف صاع.. قال الأزهري: والكر من هذا الحساب اثنا عشر وسقاً كل وسق ستون صاعاً.. (مذاهب الإسلاميين 1/503)؛ إذن نفقة الإمام الأشعري من الدراهم في السنة قيمة ستة وثلاثين صاع شعير، وللحياة كلف غير الشعير!!؛ ولهذه القناعة كان العلم شرعيه ودنيويه في أوجه على الرغم من بؤس الحياة؛ وإنما بؤس الحياة على الحقيقة يكون بالوشب في العقيدة؛ لأن ضعف العقيدة، أو اختلاطها: يجر إلى الترف والبطالة والتحلل من الالتزام بينما صحة العقيدة وحرارتها تدفع إلى العمل الصالح، ولا ريب أن فساد العقيدة في تاريخنا الإسلامي أوقع ألوف العوام وأشباههم في الاعتقاد الفاسد في أسماء الرب سبحانه وصفاته وأخباره، ولست بصدد الاعتذار للعامي الجاهل، والعالم المخطئ المتأول؛ فهذا له تحقيق مستقل؛ والله سبحانه وتعالى يعامل بغفرانه وإحسانه من شاء من خلقه يوم القيامة ممن عرف في علم الله المحيط صدق نيته، وسلامة قصده؛ وإنما أعني سعادة الحياة في الدنيا حينما يكون المكلف مصيباً مبروراً، وليس مجرد مخطئ قد يكون معذوراً؛ ذلك أن صحة العقيدة تنتج عملاً صالحاً صواباً فيكون سبباً محققاً لقبول الدعاء؛ لأن العمل الصالح وسيلة المؤمن في استمطار الرحمات؛ وبصلاح العمل، وصوابه: يصلح الكون، وتستقيم الياة، ويرتفع مقت الله.. إن الفساد يظهر في البر والبحر بمقدار ما يظهر من فساد الناس كلهم، وقد لاحظ هذا الاقتران الإمام ابن تيمية في أحد مباحثه؛ فأهون، ثم أهون أيها القارئ بـ(المدينة الفاضلة)؛ التي هي حلم فلسفي منذ جمهورية (أفلاطون)، ولكنها ظلت حلماً أو خيالاً فلسفياً؛ وإنما أعظم مدينة فاضلة في عالم الواقع كانت (طيبة) الطيبة المباركة منذ رسم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم سمت القبلة، وجلجل فيه نداء بلال وزملائه رضي الله عنه؛ وإلى لقاء في السبت القادم إن شاء الله تعالى، والله المستعان.