إن لطف الله بعباده لا حد له، ومن لطفه في قضائه ما حصل لكاتب هذه السطور قبل شهر تقريباً من اشتعال لهب نار بلغ السقف سببه الغاز وقد أدى إلى حرق بعضٍ من جلد يديه وشيء من وجهه، وذهبت آثار تلك الحروق كلها بفضل الله، والله هو المحمود سبحانه، وحين حسحست النار أكثر شعر الوجه سلَّم الله العينين فلم تصب بأذى إلا الرهق أحياناً، ومن رأى الثوب وملبوس القدم بعد الاحتراق لظن أن لابسهما قد تلفت بعض أعضائه على الأقل! ولكن «السالم معزول» والله خير حافظاً، فالحمد لله على لطفه، وهذا المقال أكتبه شكراً لله، وثناء عليه، واعترافاً بالفقر إليه، وعظيم الحاجة إلى إحسانه ورحمته، فاللهم ربي لك الحمد كله، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، نعم كم نحن والله محتاجون إلى ربنا غاية الحاجة، بل مضطرون غاية الاضطرار إليه، فحاجتنا إليه سبحانه أعظم من حاجة الطفل إلى والديه، ولا أعلم أحداً بسط الكلام حول اضطرار الخلق إلى ربهم، وحاجتهم إليه في عباداتهم وأمورهم كلها، كما فعل الإمام ابن تيمية عليه من ربه الرحمات في مواضع من كتبه ومنها على سبيل المثال الجزء الأول صفحة (20 وما بعدها) من مجموع الفتاوى، ولعل طلاب العلم يقرؤونها، ويقربون ألفاظها إلى الناس، ويشرحونها لهم، فالحاجة ماسة إلى مثلها في هذا العصر.
وأقول: سبحان الله الذي فتح على الإمام ابن تيمية بتلك الفتوح تأملاً ونظراً وتعبيراً وتحريراً، والحمد لله أن مدنا الله بمثله، وأذكر مرة أني سألتُ شيخنا العلامة عبدالله الغديان رحمه الله عن مسألة فقهية وأن أحد علماء الحنابلة حكى عدم الخلاف فيها، ثم انصرف الكلام إلى غيرها، فزرته بعد أسبوع تقريباً فقال: المسألة تلك أشغلتني كثيراً فذهبتُ أبحث عن أدلتها وأقوال أهل العلم فيها، فوقفت على كلام محرر لابن تيمية فيها... ثم قال: (ابن تيمية مدد من الله للقرون المتأخرة).
ولما قيل للشيخ محمد بن الشيخ عبدالرحمن ابن قاسم رحمهما الله: هل لابن تيمية أبناء؟ قال: نحن أبناؤه.
عوداً على بدء أحمد الله على قضائه، وأسأله العفو والعافية، ولا شك أن قضاء الله واختياره لعبده المؤمن هو خير من اختياره لنفسه.
وقد رأيت من لطف الله في قضائه هذا ما لا أحصيه، وأما آثار القضاء كألم وقت نزوله، فالله يزيله برحمته، وابن آدم ضعيف بل هو غاية في الضعف ومحل للأقدار! كم يخطط أن يفعل كذا إن مد الله في عمره، فيعرض له ما يمنعه، بل ويعجز عن القيام به، فالله هو المعين والموفق والمسدد، ولا حول ولا قوة إلا به، فاللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
وكل مصيبة تقع على الإنسان فبإذن الله، وليس العبرة بوقوعها بل بتسليم الأمر لله ومقابلة القضاء بالرضا {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، رزقنا الله جميعاً التسليم لأمره، والرضا بقضائه.
وقبل أن أختم المقال أحب أن أشكر كل من سأل عن أخيه ودعا له، أو أرسل إليه، من كبار وصغار، ورجال ونساء، من داخل المملكة وخارجها، من علماء ووجهاء، ومن وزراء وأصدقاء، ومن زملاء وأحباء، ومن أقرباء وجيران أوفياء، الذين بادروا باتصالاتهم وسؤالهم لما بلغهم الخبر، لا أراهم الله مكروهاً، وأخص منهم: سماحة المفتي العام شيخنا الفقيه عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ حرسه الرحمن، وسماحة الوالد شيخنا العلامة صالح بن فوزان الفوزان حماه ربي ورفع مقداره (والذي كان عازماً على زيارة ابنه فاعتذر ابنه إليه؛ إذ الحق لمقام الأبوة على البنوة)، وشيخنا الكبير عبدالمحسن العباد الذي غمرني بلطفه وكرمه في اتصالات يوماً بعد يوم تقريباً لمجرد الاطمئنان، ولا أنساها له جزاه الله عني خير الجزاء وأوفاه ومتعنا به.
ما زالَ يسبقُ حتَّى قالَ «غابطه»
له طريقٌ إلى العلياءِ مُخْتصرُ
وتقبل الله ما أدعوه لمشايخي الأحياء منهم والأموات، وهم كما قال أبو الطيب:
كالبحرِ يقذِفُ للقريبِ جواهِراً
جُوداً ويبعثُ للبعيد سحائِبا
كما أشكر الأديب الكبير الشيخ محمد بن عمر العقيل ولا أظن أن هذا الاسم مشهور بين الناس كشهرة ما اختاره لنفسه (أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري) الذي أصر على نفسه مع أنه سلخ الثمانين من عمره ليزور أخاه مع بُعد المسافة بين المنزلين، مع اعتذاري إليه أن يأتي مكتفياً باتصاله (إذ كان باب الزيارة مغلقاً تقريباً دفعاً للمشقة) لكن لا حيلة لي مع مثله.
وأقول كما قال الأول:
إن جدت فالجود شيءٌ قد عرفت به
وإن تجافيت لم تنسب إلى لوم
ولا أنس تلك المشاعر التي ملؤها المحبة والتوقير والتقدير التي حفني بها جملة ممن أتدارس معه العلم في قاعات المعهد العالي للقضاء مسماهم «الطلاب» وهم في جملتهم مشايخ نجباء أهل فضل وأدب زادهم الله علماً نافعاً وعملاً صالحاً، وجعلهم عدة نافعة لدينهم ووطنهم.
وأما الأصدقاء فسأكتفي بذكر الكنى عن الأسماء متمثلاً قول الشاعر:
وأنزهُ اسمكَ أنْ تمرّ حروفهُ
من غَيرَتي بمَسامِعِ الجُلاّسِ
فأقولُ بعضُ النّاسِ عنك كنايةً
خوْفَ الوُشاةِ وَأنتَ كلّ النّاسِ
فإلى أبي محمد، وأبي ناصر، وأبي سعد، وأبي علي، وأبي خالد جزاكم الله عن أخيكم خيراً وغفر لكم، وأما الصديق الفاخر أبو صالح فلم تقر عينه «على حد قوله» حتى ركب الطائرة وقطع المسافات ليفاجئ أخاه عند المنزل وليس لأحدهما على الآخر نعمة يرُبُّها إنما المحبة في الله أدامها الله، وأسأل الله أن يسقيه من حوض نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يصلح له ذريته، وأن يقر عينه.
تلكَ المكارِمُ لا أرَى مُتأخِّراً
أولى بها منه ولا مُتقدِّما
وأما الوالدان والأهل فالله يشكر صنيعهم، ويتولى جزاءهم بالحسنى.
حامداً ربي على جزيل عطائه، راضياً بقضائه، مثنياً عليه بنعمه.
** **
- عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء