د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** يطيب لمن صار قادمُه أضألَ من ماضيه -وفقًا للمسافة الزمنية المنقضية والمتبقية من متوسط العمر البشري- أن يُشغل ذاكرته ومجايليه باستدعاء حكايات الأمس وتمليحها، وكأنهم ينعون اليوم ببؤسه والأمس بأُنسه، وإنما هم يؤبنون وهنَهم، ويستذكرون فتوتهم ليس أكثر. والأمر نفسُه مع من يترحم على زمن العلماء العاملين، والشعراء المبدعين، والثقافة المؤصلة، والجيرة الطيبة، ويُشعر من لم يعشْ تلك الفترات أو يتعرف على أولئك الشخوص بأن الوقت الحالي خِلوٌ من الجمال، وأن ما مضى ومَن مضوا لا يمكن الاستعاضة عنهم؛ فلن يأتي بمثله ومثلهم أواخر.
** لا جدل ألا شيءَ يكرر شيئًا، وأن شخصًا لا يستنسخ سواه، ووقتًا لا يستضيفه وقت.. ومن يودُّ المقارنة بين أمرين فإن من المهم - لاكتمال الشرط الموضوعيّ - أن تتمَّ المقارنة بين كلٍ وكل، أو جزءٍ وجزءٍ، ولا يتم هذا بالابتسار والاجتزاء لتظهر المقارنة بين جزءٍ وكل، أو جانبٍ مع جوانب؛ فلا يمكن - مثلًا - مقارنةُ شاعرٍ بشاعر، أو عالمٍ بعالم، أو زمنٍ بزمن، أو جيل بجيل دون الاحتكام إلى ظروف المكان والزمان واللغة والأحوال والظرف والعرف ودوائر القرار ووسائط الإقرار.
**لا يستطيع الإنسان مقارنة نفسه حين كان شابًّا بنفسه عندما اكتهل عبر حكم كليٍ قاطع، وإن أمكنه عملُ جدول تتمايز عناصره بين نشاط وقوة وعقل وعاطفة وإمكانات ومواقف، وسينتهي إلى إيجابياتٍ كما سلبيات، وإضاءات مقابل انطفاءات، ولن يجد - في المجمل - ما يُشعره بتميزٍ مطلقٍ.
** ولعل من مساوئ الخطاب المتداول في مختلف مستوياته اعتمادَ المقارنة التفضيلية بين شخصين أو قولين أو فكرتين أو مشروعين أو مرحلتين؛ ففيها إطفاءٌ لأحد الطرفين، أو إحباطٌ له، يبدأ من التهميش، وقد يصل حدَّ الإلغاء، والقراءة الخاطئة توصل صاحبها إلى نتائج مثلها، وهنا المأزق الذي يقع فيه «المؤدلجون والمبرمجون» ممن امتلأ بهم زمننا فاستحال الفكرُ - في تحليلاتهم - إلى كرةٍ يتقاذفها لاعبوهم، وضحيتُها المتعصبون «المَعويون والضديون» من جماهيرهم.
** تفاضُل الثنائيات منهجٌ تربت عليه أجيالٌ فطالها سغبُه وشغبه، ولم يكن لأحدٍ الحقُّ في أن يدعي أنه عروبي وإسلاميٌ معًا، أو فصحوي وعامي في وقت واحد، أو منتمٍ لوطنه ومحبٌ لمنطقته، أو حداثوي يصلي وليبرالي مؤمن، وكان شعار بعضهم يومًا: «أخي في العقيدة والدين لا في الماء والطين»، وكأنّ الجمع بينهما يشبه ما تعذر جمعه لدى المتنبي «الجَدّ والفهم» كما يستحيل جمع الماء والنار.
** قال بعضَ الحقيقة الشاعرُ البغداديّ محمد جواد ابن عبد الرضا عواد - توفِّي 1747م - في بيته السائر «وله تتمة ليس هذا مقامَها»:
ألم ترَ أن السيفَ يزري بقدره
إذا قيل إن السيفَ أمضى من العصا
وفاته أننا - منذ انتهجنا المقارنات التفضيلية بين سيدنا علي - رضي الله عنه - وسواه - دخلنا نفقًا طال انتظارُ آخره.
** الحياة تكاملٌ لا تفاضل.