م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1. كان التاريخ لا يعد تاريخاً إلا بموت صاحبه.. فالتاريخ يولد حينما يموت موضوعه.. لكننا اليوم صرنا نرى التاريخ المعاصر يُعْرض أمامنا باعتباره تاريخاً حاضراً لا يكف عن الاحتراق.. فقد أدخلتنا تنبيهات أخبار «عاجل» ووسائل الإعلام بكافة أنواعها بوتقة الانصهار الكلي في عالم الواقع الحي.. فلم نعد نرى التاريخ ببعده الزمني السحيق، بل بحاضره وبما سوف تؤول إليه أحداثه.. حيث أغرقتنا وسائل الاتصال في التفاصيل.. وكثير منا سوف يعيش حتى يرى الأثر التاريخي لذلك الحدث ويتعرّف على دلالاته.. أي أننا الآن في مرحلة مشاهدة النتيجة حيَّة وقائمة بعكس سابقاً، حيث كان التاريخ يروي الأحداث التي انتهت منذ زمن بعيد.
2. في وقتنا المعاصر أصبح المؤرِّخ مشاركاً في حضور الحدث وبالتالي تغيّر منظور الحدث.. وهذا بدوره أدى إلى حدوث تطور كبير في طبيعة عمل المؤرِّخ.. بل إن المفهوم التقليدي لطبيعة عمل المؤرِّخ انتهى مقابل المفهوم المعاصر.. فالمؤرِّخ اليوم مطالب بكتابة التاريخ الحاضر وليس الماضي.
3. في التاريخ المعاصر سقطت نظرية أن «التاريخ يكتبه المنتصرون».. فالتاريخ أصبح اليوم يُعْرض أمام أنظار الجميع.. والتدوين الموثّق للحدث أتاح وبشكل غير مسبوق فحص وتدقيق وتصحيح التاريخ ولو بعد حين.. كما أن المؤرِّخ المعاصر صار يتعامل مع الحدث وقت وقوعه.. فالتاريخ أصبح آنياً مما جعل للأحداث معنىً آخر جديداً.. فالحدث لا يُعرف بأهميته الإعلامية فقط وإنما بآثاره.. وهذا يعيدنا إلى قول الفلاسفة بأن: (الحدث ليس ما يمكن رؤيته أو معرفته، بل معرفة ما سوف يترتب عليه من نتائج).
4. واليوم اقتربت مهنة المؤرِّخ المعاصر من مهنة الصحفي المعاصر.. لكن هناك فروقات بينهما.. فالصحفي يتحدث عن الواقع الظاهر وتأثيراته الآنية دون الغوص في تفاصيل الحدث وجذوره.. وهو أقصر نظراً من المؤرِّخ وإن كان يتفوّق عليه بأنه يسبقه في تدوين الحدث.. بينما المؤرِّخ ينبش في أعماق القضية ولا يكتفي فقط بما يُعْرض في وسائل الاتصال.. بل يدعم بحثه بالوصول إلى مصادر معلومات.. من هنا فإن تحليلات المؤرِّخ تتسم بأنها أعمق وأشمل ووفق منهجية.. فهي تُقنع وتُشْبع المتابع.. عكس التقارير الصحفية التي تقدّم للمتلقي خبراً سريعاً مجتزأً دون توثيق عميق أو وفق منظور شمولي يربط ويحلّل ويستقرئ.
5. المؤرِّخ المعاصر اليوم محلّل أكثر من كونه راصداً.