د. حسن بن فهد الهويمل
كل مفكر، أو مشتغل بالشأن العام مرتهنٌ لأنساقه الثقافية. منها ينطلق، وإليها يعود، وقليل من أولئك من يتململ في إساره، ويكسر قيده.
وكل واحد من المُنْخَنِعِين يصيح في وجه نسقه:
[آهِ مِنْ قَيْدِكَ أَدْمَى مِعْصَمِي ... لِمَ أُبْقِيْهِ، وَمَا أَبْقَى عَلَيَّا]
وحتى لو تحرّر الإنسان من بعض أنساقه، وسبح في فضاءات الفكر حراً، طليقاً، وسمى نفسه، أو سماه غيره بـ[اللاَّمُنْتَمِي] فهو مُنْتَمٍ إلى عدم الانتماء.
وليس هذا من باب [التفكير في العدم] المفضي إلى عدم التفكير، وإنما هو حقيقة بسلطانها المبين.
انتماء [اللاَّمُنْتَمِي] حقيقة لمن فَكَّر، وقَدَّرْ. ولو استدعينا على سبيل المثال الروائي العالمي المتعلمن [نجيب محفوظ]، الذي قيل: إن حصوله على [جائزة نوبل] مردها إلى خلوصه من الانتماء: القومي، والديني، بل، والأخلاقي، لوجدناه الأكثر انتماء، لما يصبو إليه، من نزوع إنساني متطرف، وجد فيه لقمة العيش، فيما لم يجد شرف الموقف.
ما تقرؤون تمهيدٌ لما سأخوض فيه، واحتراسٌ لما أتوقّعه من اتهام جائر، وتصنيف ظالم.
فأنا أؤمن بـ[الغزو]، و[التآمر]، و[تلاحق اللعب السياسية]، و[المكائد] الغربية التي لا تنتهي، إلا حيث تتحرف للعبة، أو تتحيز لعميل. هذا أنا، وهذا فَزْدِي.
فيما يستبعد البعض بعض ذلك، أو كله، ويرى أن هذا من العقد النفسية، والوساوس التي تجتال الصدور.
ولو لم يكن الأمر كذلك، لما جاء في الذكر الحكيم الاستعاذة {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}. والناس هنا بإعلامهم المضل، وخطابهم المزل، واستدراجهم المذل.
أحداث أمتنا العربية القائمة لا تسر إلا الشامتين:
و[سَيَلْقَىَ الشَّامِتُون كَمَا لَقِيْنَا]
تلك الأحداث الموجعة، تأتي حلقة ملتهبة في سلسلة طويلة من حلقات الفتن. منذ خِنْجَرِ المجوسي. ومكر ابن سباء. وضلوع العنصر الفارسي في بني أمية، وابن العباس. ومواطأة [بن العلقمي]. والحملات الصليبية. وحروب التتار. وحملة نابليون. والاستعمار. ووعد بلفور. والاستيطان الصهيوني. واتفاقية [سايكس بيكو]. والانقلابات العسكرية.
ثم حروب الخليج الموجعة. واشعال الفتن في خمس دول عربية، بقيادة [الملالي، والآيات] وبمباركة من [خَوَرْنَق] العصر [وسديره]: [البيت الأبيض]، و[الكرملن]. ودسيسة [الربيع العربي]. ودعم الأقليات: الطائفية، والعرقية، والإقليمية، وسائر التكتلات الفئوية، وتمكينها من قهر الأغلبية، وإذلالها. وبيع السلاح، ودعم صُنَّاعه، بِوَصْفه من الدخل القومي.
توقعات المراقبين بَدْءُ انكشاف اللعب، وقربها من مشارف النهاية. وقد يأخذ المقاتلون العملاء قِصْداً من الراحة، ليستأنفوا مشواراً أشد، وأعتى.
[إيران] اللاعب الرئيس، والأشرس، والأغبى. أعْطِي الضوءَ الأخضر، وشُدَّ أزره، ومكن من الترسانات العسكرية، والدعم السَّخي.
دخل العراق، وهو ألدُّ خصومه. والعراقُ الأعتى قومية، والأشد أنفة. وحين يسِّرَ له الدخول، وقف قائد المليشيات الشيعية على [قبر الرئيس] مثلما وقف الجنرال [جورو] على قبر [خالد بن الوليد] ليقول له بزهو:- [ها نحن عدنا فانهض لترانا في سوريا].
وأُتْبِعَ ذلك التعدي على سيادات دول ذات قرار، واعتزاز، وتمكن. وما اختفاء القوميات المتأججة إلا ناتج شراء للذمم بالمال، أو أخذها بالقوة.
وعندما انتهت المهمة الأقذر، وامتدت يد [الملالي] لقطف الثمر، جاءتها ريح عاصف، لتحطمها، لأنها نَفَّذَتْ اللعبة، ولم تعرف قواعدها.
طُعْم التوسع، وتصدير الثورة، والحلم الصفوي الذي أُغْرِيَ به اللاعب الغبي سراب بِقِيْعَةٍ، استنزف [الملالي، والآيات] في سبيل الوصول إليه قُوْتَ الشعب، وأمنه، وكرامته. ولما وصل القِيْعَة، وجد خيبة الأمل، وبقي الظمأ.
لقد ألْقِيَ في روع [إيران] إمكانية التوسع، وتصدير الطائفية، والقومية المجوسية، واحتواء المشرق العربي، وشفاء صدور المجوس من غل دفين على الأمة العربية التي سلبتها مُلْكَها، وحَطَّمت إمبراطوريتها.
صنّاع اللعب في مُضْمَراتِهم لا يريدون إعادة الأحلام [الصفوية] ولا بسط الهيمنة [الإيرانية] على دول الشرق. وإنما يريدون مقاتلاً شرساً، حاقداً، جلداً بالأجر، يَشْتَري السلاح بقوت الضعفاء، والمساكين، ليكسر شوكة الأعداء بالقتل، والتدمير، والتشريد، والفوضى.
ومستثمر اللعب يأوي إلى جبل من الحيل، والمكر، والتآمر. يرقب المعارك عن بعد، ويحرك الدمية، ويحفظ التوازن بين كر، وفر. وإقدام، وإحجام. وجزر، ومد.
حتى إذا ذهب المال، وخارت القوى، وتفرق القوم، وتحقق الفشل، أعيد كُلُّ عميلٍ إلى مربعه الأول بضربة خاطفة، أو بمحاصرة خانقة، أو بمقاطعة مذلة، أو بذلك كله.
العملاء الأغبياء يظنون أن [إيران] العميل المكشوف العمالة، يملك قرار الحرب، والسلم، والتصالح، والتقاطع، وأن تصفية خصومه مسألة زمن.
وفي ظل هذا التَّصَوُّر لا تغني الآيات، والنذر. وستبقى الأسطوانة المشروخة تردد نفسها، على مَسْمَعٍ، ومَرأى من البلة، والمغفلين.
[إيران] بعد مشوار دموي، تدميري طويل، بدأت تحس بأن الرياح تجري بما لا تشتهي.
ومهما اتخذت من التصرفات، فإنها ستعود خاسئة، حسيرة، ذليلة إلى مربعها الأول، فارغة اليد، والجيب، ملطخة السمعة، شائهة الوجه، مهيظة الجناح، مطأطئة الرأس.
فلا هي حقنت الدماء، ولا هي حفظت المال، ولا هي صانت المثمنات، ولا هي أحسنت الجوار. ولا هي حين زجت بنفسها في أتون الفتن انتصرت، وجنت ثمار مشاويرها الباهظة التكاليف.
منذ انتشاء [الخميني] إلى اعترافه بتجرع السم، ومن بَعْدِه مَلاليه، وآياته، والأمة العربية في أتون الفتن، تدفع الثمن من المال، والأنفس، والثمرات، والأمن. في محاولة لصد العدوان، وكسر شوكة المجوس: {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}.
والعار أن البعض من عرب العمالة، واكبها، وناصرها، ظنا منه أنها تحمل رسالة، وتفرض رؤية، وتنفِّذ إرادة: {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا}.
بينما اللاعب القابع في غرف العمليات يمتص الدماء، والأموال، يعاهد، ولا يفي، ويلتزم، ولا ينفذ، يقول بلسانه ما لا تفعله يده. كل يوم له قِنَاع، وفي كل موقف تعلوه أصباغ وفي كل حدث له خطاب.
والمغفلون السذّج يُعَوِّلون على خطابه، ويراهنون على جياده، ويُنْحُون باللائمة على زعماء أمتهم، الذين يدفعون بالتي هي أحسن، ويتحامون الانغماس في أتون الفتن.
[إيران] تودع المشهد بعار التاريخ، متحملة ذل الهزيمة، وعار العمالة. ومن ورائها عملاؤها الذين خابت رهاناتهم، وتبخّرت أحلامهم.
[عاصفة الحزم] بكل تكاليفها، هي التي كشفت اللعبة، وبدأت مشوار العودة بكل العملاء إلى مربعاتهم الأولى.