د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
للأديان رسالة سامية جعلتها تنتشر بين البشر داعية إلى الأخوة والتسامح والإحسان. غير أن ما نشاهده في الواقع المعيش من عنف ديني واقتتال طائفي يدعو للتعجب أين ذهبت المثل العليا والأخلاق الفاضلة التي تقف خلف العواطف الدينية. ولا شك أن الأديان لعبت دورًا جوهريًا في تحقيق السلم المجتمعي لكنها عندما عبث بها وحرفت عن رسالتها الأصلية تحولت في أحيان كثيرة إلى سلاح خطير فتاك جرد أتباعها من أبسط عواطفهم الإنسانية تجاه أخوتهم في الإنسانية، وأشعل الاقتتال بين الشعوب والجماعات والطوائف في أماكن عدة من العالم. ومما يسهل استغلال الدين لأمور العنف اعتماد الأديان على الإيمان والتصديق العقدي الذي لا يخضع ضرورة للتمحيص العقلي فهي تمازج في غالبها بين الأمور المعايشة والمثل الغيبية.
المتدين الحقيقي، في كافة الأديان، عادة من أكثر الناس لطفًا وتسامحًا وأكثرهم محبةً للخير وجنوحًا للسلام إلا أنه يتحول إلى شخصية خطيرة جدًا بسبب تأثيره على أتباعه بشكل مطلق عندما ينحرف أو يصاب بأمراض نفسية كالانفصام الشخصي أو جنون العظمة وتتنازع شخصيته تناقضات عنيفة بين الخير والشر. و قد تتحول السلطة الدينية لسلطة سياسية أو مادية بسبب استغلال رجال الدين للبسطاء. وبعض رجال الدين من أكثر البشر غنىً وسطوةً وتأثيرًا سياسيًا. و قد يمتد خطر الانحراف الديني إلى شرائح كبيرة من المجتمع تجنح عادة للتصديق التلقائي لرجل الدين وعلى وجه الخصوص في المجتمعات المتدنية التعليم، وتعتمد في تفسير كثير من أمور حياتها عليه. و قد يزيد من تأثير رجل الدين الأموال الطائلة التي تجمعها بعض المؤسسات الدينية في بعض الديانات كالحوزات، أو الكنائس، أو المعابد البوذية والهندوسية، أو حتى الجماعات الجهادية. أو التوظف لغير هدفها المعلن وتمكّن رجل الدين من مزيد من التأثير والسيطرة على أتباعه.
هناك مثلاً ديانات أسست على مفاهيم الهدوء، والتأمل، والسلام، تحرّم قتل أي كائن حي حيواناً كان أم طائراً، بل تحرم قطع الأشجار لغير ضرورة، ديانات مثل البوذية والهندوسية. لكن رهبانها أباحوا سفك دم البشر من أتباع الديانات الأخرى بشكل غير مسبوق يتناقض بشكل صارخ مع ما أتت به من مثل وتعاليم. يوجد في بورما مثلاً أكثر من مليوني كلب هائم، وملايين الغربان المؤذية بسبب تحريم قتلها، لكن العالم أجمع شهد ما فعله البوذيون بالمسلمين في بورما من قتل لمسلمي الروهنجا وحرق وحشي لقراهم. فمبادئ الرحمة بالكلاب والغربان لم تمتد للإنسان. ولا تختلف الممارسات الإيرانية بحق السنة في البلدان العربية وفي إيران نفسها عن ممارسات البوذيين بحق المسلمين الروهنجا في بورما، رغم دعوة المذهب الشيعي للسلم والزهد، والدروشة، والتقشف. والأمر ذاته ينطبق على دعم البروتستانت، المذهب الأكثر تسامحًا في المسيحية، بشكل دوغمائي أعمي للوحشية الإسرائيلية في فلسطين وتعاميهم التام عنها رغم معرفتهم التامة بها وبتناقضها مع مبادئ المسيحية.
وتساق مبررات تاريخية مزعومة للعنف الفظيع الذي مارسه البوذويون ضد المسلمين في بورما، مبررات أيديولوجية قريبة الشبه من أيديولوجية الانتقام التاريخي من السنة التي تروجها إيران بحجة الانتقام لمقتل الحسين. فيعتقد البوذيون، أو هكذا علمهم رهبانهم، أن أفغانستان، وباكستان، وبنجلادش كانت شعوبًا بوذية حتى أسلمها المسلمون بقوة السلاح. ويرون في ذلك مظلومية بوذية من المسلمين تشبه المظلومية الشيعية الإيرانية من السنة. وقد تجدد وتجذر هذا الشعور البوذي بالمظلومية ليس في بورما فقط، بل في كافة البلدان البوذية، عندما دمر أتباع القاعدة عن حماقة وجهل التماثيل البوذية التاريخية في باميان في أفغانستان. حيث يعد هذان التمثالان القديمان جدًا من أهم المعالم البوذية التاريخية في آسيا. ومعروف أن للمعابد قدسية لا تمس في الديانات البوذية والهندوسية لأنهم يعتقدون أن آلهتهم تتجسّد وتقيم فعلاً داخلها ولذا فهم يبخرونها كل يوم ويضعون الزهور والشموع فيها صباح مساء. ولأسباب مشابهة اعتدى البوذيون في كاندي في سيريلانكا على قرى المسلمين وحرقوها تضامنًا مع بوذيي بورما. وفي جميع الأحوال يدفع الثمن المساكين والفقراء الذين لا دخل لهم بعبث قادتهم الديني. فأي ذنب اقترفه ملايين السوريين الذي هجروا من منازلهم، أو أولئك الذي غرقوا في عرض البحار هربًا من الجحيم الإيراني مثلما هجّر مئات آلاف الفقراء الروهنجا من قراهم. ما نشاهده من احتراب ديني أو مذهبي ليس من الدين في شيء بل نتيجة لتلاعب الرهبان والملالي بمشاعر البسطاء الدينية.