د. محمد عبدالله العوين
قبل أن تبدأ الأمسية الشعرية بدقائق قلت لمرافقي من وزارة الثقافة المصرية: هل يمكنني مقابلة نزار قباني والسلام عليه؟ قال: انتظر قليلاً. كنت جالسًا في الصف الأمامي مع ضيوف المعرض، ولمحت إشارة من المرافق أن أصعد إلى خلف كواليس المسرح حيث يجلس الشاعر انتظاراً لبدء الأمسية.
كانت القاعة المعدة للأمسية فسيحة الأرجاء عالية البهو مزينة باللوحات الجمالية وبالدعاية للشاعر وأمسيته، وعلى الرغم من رحابة القاعة واتساع أرجائها ضاقت بالجماهير، لا مقاعد خالية، لا مكان يمكن أن تنغرس فيه قدم، الصفوف متراصة وكأن بعضها فوق بعض لا خلف بعض، ومن لم يسعفه الحظ بالتسلل إلى فرجة وقف مع مئات وقفوا ووقفن على السلالم والدرج الصاعد إلى الأدوار الأخرى، لم يكن الرجال يشكلون في القاعة إلا الجزء الضئيل القليل الذي يكاد يختفي بين أفواج النساء الزاحفات إلى الأمسية، ربما كن يعتقدن أن الشاعر لا يقول شعرًا إلا في مديح جمال النساء، وقر في وجدانهن أن نزار شاعر المرأة؛ فأردن أن يسمعن منه رأيه الصريح فيهن دون مواربة ولا استحياء، لا يمكن لأحد أن يعلل سبب غرام النساء بمن يكتب قصائد التمجيد والتبجيل والثناء فيهن؛ هل لأن المرأة لا تسمع من الرجل ما يكفي من الثناء والإطراء على جمالها وأنوثتها ورقتها ومقدرتها على إيقاع من تشاء في ما تملكه من سحر وجاذبية وأنوثة طاغية؟ أم لأنها تريد رجلاً لا يخجل أو يتردد أو ينتقي عبارة ويدع أخرى حين يعبر عن مدى إعجابه بجمال أنثى، ونزار هو الشاعر الذي ألقى بالتردد وبالخجل وبالحياء خلف ظهره وضرب صفحًا عن يجوز وما لا يجوز واقتحم عالم الأنوثة وعبَّر عمَّا لم يستطع شاعر قبله التعبير عنه، نزار عند نساء هذا العصر هو عمر بن أبي ربيعة عند نساء بني أمية.
صعدت إلى المسرح بخفة الحريص على تحية الشاعر والتقاط صور معه وتحديد موعد للقاء إذاعي طويل، كان بجانبه وزير الثقافة المصري الأسبق «فاروق حسني»، نهض نزار من كرسيه مصافحًا حين قدمني مرافق الوزارة إليه: فلان من الإذاعة السعودية، قلت له: أهلاً بشاعرنا الكبير، لم أزد على هذه الكلمة ولم أسمع منه ردًا عليها، سل يده من يدي حين سمع كلمة «السعودية» وجلس، ثم صعد وجهه ناحية الوزير متشاغلاً بالحديث معه.
كان الموقف بالنسبة لي مخيبًا، فقد سقط الشاعر الكبير من عليائه، وكشفت كم كان يحمل في داخله القميء من كراهية واستصغار لجزيرة العرب وأهلها وحكامها، تساقطت كلماته أمام عيني وأنا عائد من المسرح أبحث عن مخرج بين الزحام للهروب من شاعر يكره العرب ويرى أن ثقافة وقيم الصحراء لعنة وأن نعمة النفط بلاء، وتراءت بلادي الجميلة المتحضرة أمام ناظري تحجب أحقاد نزار بما شيدته من صروح العلم وبما بنته من معالم الحضارة والرقي.