عمر إبراهيم الرشيد
ليس هناك أجمل من القصة وأبلغ تاثيراً في النفوس، وشحذاً للهمم وإحياء للقيم، ولذلك فالقرآن الكريم يعتمد أسلوب القصة في تثبيت الإيمان وإحياء النفوس وإنارة العقول بالحكمة. أظلنا خير الشهور، محطة نتزود منها لإكمال المسيرة، ولنتعلم من هذه المدرسة الكبرى تهذيب النفس من ماديات الحياة وإعلاء الروح بالبذل والعطاء.
كان خزيمة بن بشر من أجود الناس، يقيل العاثر ويعين المكروب بماله، فما زال على تلك الحال حتى بدأ ماله في النفاد فلم يقو على مواصلة شيمته تلك، ثم أنه بدأ في طلب العون ممن كان يعينهم ويقيل عثراتهم فلم يجد من يرد له إحسانه، كعادة كثير من الناس وفي زمننا هذا بالأخص. قرر خزيمة بعدها أن يعتزل الناس بعد أن نفدت قوته وأصبح معدماً، وخير زوجته إن رغبت في الطلاق فرفضت وفاءً وحباً كعادة كثير من الزوجات. كان هذا في أرض الجزيرة الفراتية شمال غرب العراق وكان واليها هو عكرمة بن فياض، والياً من قبل سليمان بن عبد الملك الأموي. عرف الوالي عكرمة بخبر خزيمة فخرج ليلاً ومعه أربعة آلاف درهم ذهبي وطرق عليه الباب وألقى إليه كيس الدراهم، فسأله خزيمة عن اسمه وتحت الإلحاح قال الوالي المتخفي (أنا جابر عثرات الكرام). أخذ خزيمة المال وسدد ما عليه من ديون وأصلح شؤونه كلها، ثم خرج الى الخليفة سليمان بن عبدالملك وقص عليه قصته، وبعد أن أجزل الخليفة له العطاء كتب له بالولاية على الجزيرة الفراتية مكان عكرمة، ولا بد من التذكير أنه لا أحد قد علم بصنيع الوالي عكرمة (جابر عثرات الكرام) واقالته عثرة خزيمة، إلا زوجة عكرمة فقط.
عاد الوالي الجديد خزيمة وبدأ بمحاسبة الوالي المخلوع عكرمة كما هي السياسة التنظيمية في ذلك الوقت، فوجد نقصاً في بيت المال، فقرر حبس الوالي حتى يسدد ما عليه. ثم أن زوجة عكرمة وهي التي علمت بصنيع زوجها متخفياً مع خزيمة حين اقال عثرته بأربعة آلاف درهم ذهبي، خرجت إلى الوالي خزيمة وأخبرته القصة، فصعق حين عرف أن جابر عثرات الكرام إنما هو الوالي السابق الذي يقبع في السجن، وأن النقص في بيت المال إنما هو من البذل وإقالة العثرات بما فيها عثرته. دخل خزيمة على السجين الكريم وقبل رأسه وطلب منه الصفح وأن يقيده ويسجنه إن أراد أن يقتص لكن عكرمة أسمى من ذلك. ثم ذهب الاثنان إلى الخليفة سليمان بن عبدالملك وقصا عليه ما جرى، وسليمان كريم نفس ويد، فعين عكرمة والياً على العراق وخراسان وله أن يبقي خزيمة والياً على الجزيرة الفراتية إذا شاء وهو ما حصل، فكان الثلاثة مضرب مثل في الكرم والوفاء وسمو النفس.
هذه قصة حدثت وذكرتها كتب التاريخ وليست نسج خيال، تعلمنا أن صنائع المعروف لا تضيع عند الله جل وعلا، ولا بد يوماً أن يجد باذلها جزاء معروفه في الدنيا قبل الآخرة {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}. والأمر الآخر أن الرجال تعرف الرجال، فلا يبتئس المرء بنكران تافه أو صغير عقل. والثالث أن الأنثى الكريمة جنة زوجها، وأن المرأة قوتها في شمائل أنوثتها وسمو نفسها فقد رأينا مواقف زوجتي الرجلين الكريمين، كما هي أدوار الأنثى عبر التاريخ الإسلامي والإنساني. ثم لاحظوا أسماء الرجلين وكأنها مصداق لمقولة العرب لكل من اسمه نصيب، تقبل الله صيامكم.