عبدالعزيز السماري
تحتاج النفس إلى أن تتوقف، ولو قليلاً على أطلال الحياة، ثم المضي بعدها إلى آخر المشوار، فالذاكرة الطويلة والمثقلة بالأحداث والتفاصيل والكلمات تفصلها وقفات زمنها شهر كل عام..، وفي شهر رمضان تعود بعض من المشاعر والأحاسيس، ولحظات أخرى على طريقة مرت من قبل، لكن الغائب الأكبر في تلك اللحظات بعض الوجوه التي كانت تنتظر معنا لحظات ما قبل الإفطار، فقد اختفت إلى الأبد، ولم يبق منها إلا ذكريات عابرة في أصدق لحظات الانتظار.
الحياة أقصر بكثير مما نتخيل، فالستة أو السبعة أو الثمانية عقود في هذا الزمن الكوني أشبه بوميض يظهر لثواني عدة في الفضاء ثم يختفي، ولو توصل الإنسان لهذه الحقيقة لما تشبث كثيراً بالحياة، ولما اعتقد أنه يعيش للأبد، ولما ارتكب كثيرًا من الحماقات في حق نفسه وأهله وأحبابه ووطنه، ولما قتل أو سرق أو ظلم أو انتقم أو حقد على آخر مهما اختلف معه.
الحياة أجمل بكثير مما نعيش، فقد مزق الشقاء والاقتتال واقعنا الإنساني، بينما وصلت كثير من الأمم إلى تلك القناعة التي تحترم حق الحياة للجميع دون ألم أو شقاء ودماء، ولم يأت ذلك إلا بعد معاناة طويلة من الانشقاق والصراع، لكنهم وصلوا إليها، ثم أسسوا حواليها جسورًا متعددة من التواصل والتسامح..
كنت دومًا ضد نظرية داورين للتطور النوعي، إذ لا يعقل أن تتطور دودة متناهية في الصغر إلى أن تكون حيواناً ضخماً أو إنسانًا عاقلاً، لكنها عندما ننظر إلى هذه النظرية المختلف عليها من خلال التطور النوعي في الجنس الواحد، أي في الإنسان على سبيل المثال، فقد تصح، فالبشر في المجتمعات المتخلفة يختلفون عن الذين يعيشون في مجتمعات أكثر تطوراً، فالعنف والاقتتال والحروب من سمات الشعوب البدائية، بينما تتميز الشعوب المتحضرة بالانضباط والامتثال للقوانين..
تعاني بعض الدول العربية من هجرة العقول إلى الغرب، والسبب عدم وجود الفرص للوصول إلى الإنجاز، كما تعاني الشعوب العربية من الهجرات الجماعية إلى كندا وأوروبا، بحثاً عن ضروريات الحياة، وتعبّر رحلات الموت عبر البحار إلى أوروبا عن حالة البؤس واليأس الذي يعيش فيها بعض السكان العرب في بلادهم..
أكاد أجزم أن نسبة 99% من الشعوب لا تعنيها أمور السياسة، فما يحلمون به خلال هذه الرحلة القصيرة في الحياة هو الطمأنينة والشعور بالأمن في الأوطان، لكنهم في كثير من الأحيان يُدفعون إليها وإلى الهلاك قسراً، لأن هناك دوماً قلة تدمن العيش في أجواء الصراع والاقتتال مهما كلف الأمر..
معاناة بعض الشعوب العربية قصة ستُروى إلى الأجيال القادمة، وقد كانت السياسة، بكل ما تحمل من معاني سلبية في العقل العربي، العامل المشترك في وصولهم إلى حياة اليأس والألم، ولو أدرك زعماء الأحزاب والفئات المتقاتلة ذلك، لربما عادوا إلى بعض من رشدهم، فالحياة أقصر من أن نمضيها في التشرد والتشرذم والكراهية والخلاف.
في آخر لحظات الانتظار لما قبل لحظة الإفطار تظهر حالة من السلم والطمأنينة في النفس، قد تسهم في الوصول إلى تلك القناعات المفقودة في بقية الأيام، وقد تساعد في أن نرى الصورة الحقيقية لحياة الإنسان على وجه الأرض، وكما ذكرت أعلاه.. حياتنا وميض قصير في فضاء كوني، ولا يستحق أن نقضيه في ألم المعاناة والأحقاد والانتقام والحروب.. رمضان كريم.