لبنى الخميس
يقال إن ذاكرتنا المتصلة بمكان ما ليست مرئية فحسب، بل سمعية وحسية تتبلور مع ما تمنحنا إياه من أصوات وأحاسيس وذكريات، لذا قام مجموعة من المهتمين بإطلاق مشروع باسم «ساوند سيتي بروجكت» وهو نظام صوتي ثلاثي الأبعاد يهدف إلى توثيق أصوات أبرز معالم المدن بواسطة جهاز استشعار صوتي بأربعة قرون يلتقط أدق الموجات الصوتية، لتعيش أثناء الإصغاء لها شعوراً حقيقياً بتواجدك بالمدينة لتسمع ضجيج الشوارع، وتقترب من أحاديث العابرين، وتداعبك أصوات الرياح والعازفين على جنبات الطريق.
وثق الفريق حتى الآن 64 موقعاً في ست مدن من ضجيج التايم سكوير، إلى حديقة في ستوكهولوم إلى قطار يهم بالمغادرة في مدينة صغيرة في النرويج.
أما روائح المدن التي تشكل جزءاً جوهرياً من تجاربنا وعواطفنا وتفاعلاتنا مع المواقع والأمكنة.. فلم تسلم هي الأخرى من شغف الفضوليين الراغبين في استنشاقها ووصفها وتوثيقها في خرائط أسموها «خرائط الرائحة» لعدة مدن مثل ميلانو وامستردام وغلاسكو.. قسموها لثلاثة مستويات منثورة في أرجاء المدينة: روائح خفيفة سريعة التبخر مثل: رائحة القهوة في المقاهي والكتب القديمة على الأرصفة والمكتبات الصغيرة، وروائح عرضية مثل: رائحة الأسماك في الموانئ والزهور في الحدائق أو التوابل في الأحياء الشعبية، وأخيراً الروائح الخلفية للمواقع مثل: القنوات المائية، رطوبة الجو، والأطعمة الحارة.
لم يكتفي البشر في محاولة توثيق أصوات المدن، ورسم خرائط لروائحها، بل تخطوا ذلك إلى محاولة إيجاد لون موحد يطغى على ملامحها. فوصفوا نيويورك بأنها المدينة البنية.. ويُعزى السبب أنه بعد الحريق الكبير الذي أصاب المدينة في عام 1835 اضطرت المدينة إلى أن تلجأ إلى استخدام الطوب البني كمادة منخفضة التكلفة لترميمها.. أما مراكش فهي المدينة الحمراء، سانتوريني هي الجزيرة البيضاء، والبتراء هي المدينة الوردية، وأخيراً سان فرانسيسكو، هي مدينة الألوان الباستيلية تعبيراً عن الحركات الثقافية والحقوقية المتعاقبة عليها.
ولكن يبقى السؤال، هل المدن التي ولدنا وترعرعنا بها.. هي محضن أحلامنا بالضرورة؟ أم أن فضاء الله الواسع بما يكتنزه من مدن يحمل لنا قصة أخرى؟! هناك بعض التجارب التي قد تثبت ذلك، فزرياب الموسيقي الموهوب الذي نشأ في بغداد، لكنه أزهر وقدم أعظم إسهاماته في المدينة الأندلسية قرطبة، فأنشأ فيها أول معهد موسيقي في أوروبا مازال حتى يومنا هذا موجوداً باسمه، وأسس فن الإتيكيت، وأثرى الحياة الثقافية والاجتماعية في الأندلس، أما الكاتب الإيرلندي أوسكار وايلد الذي ولد وترعرع في دبلن فوقع في غرام باريس وتعرف فيها على أشهر كتاب وأدباء المرحلة، وطلب أن يدفن فيها بدلاً من وطنه الأم إيرلندا.
أخيراً.. إذا اتفقنا أن المدن تشبه البشر بما فيها من خصال وطباع ملامح.. مرئية وسمعية وحسية.. علينا إذن أن نفكر بوعي بعلاقتنا بالمكان الذي نقطنه.. كم ورثنا من ملامحه؟ وتطبّعنا بطباعه؟ والأهم، ماذا أَضفنا له من جنون خيالاتنا.. وعمق مواهبنا.. وصدق وذكرياتنا.. فجميعنا حتماً نعرف مسقط رأسنا.. ولكن هل جربت يوماً تسأل نفسك ما هو مسقط روحك؟! ما هي المدينة التي تشبهك؟ تداعب سطح تجاربك وعمق أحلامك.. فقد تلدنا بطون أمهاتنا مرة.. ولكن تجاربنا وذكرياتنا ومغامراتنا مع المدن قد تلدنا مراراً!