د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
يحل رمضان علينا ككل عام ومن حولنا تتزاحم النعم، فمن نعمة الإيمان، إلى نعمة الأمن والأمان، إلى نعمة الصحة والعافية، إلى نعمة الغنى والرفاهية، إلى نعمة الرخاء والاستقرار، إلى نعمة الفراغ والإجازة أو العمل القليل، ولا نملك حينها إلا أن نشكر المولى عز وجل أن بلغنا هذا الشهر الكريم ونحن على هذه الحال.
ولستُ في مقام وعظ أو نصح وإرشاد؛ لأني لستُ أهلاً لذلك، ولأني لا أجيد هذا الأسلوب، ولأنه ليس من طبيعة هذه المساحة، غير أني أجد نفسي مشدوداً في كل رمضان إلى استحضار قوله تعالى: (شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان)، هذا الشهر المبارك الذي آثره المولى سبحانه ليكون زماناً لإنزال كتابه الكريم، وهي فضيلةٌ عظمى واختصاص متميز لهذا الوقت الفضيل من العام.
ولأنَّ لحظات هذا الشهر مباركة، وثوانيه غالية، ودقائقه قيمة، ولأنَّ الحسنات فيه تزيد، والأجر يتضاعف، أرى أنه من واجب النبيه الذكي الفطن أن يستشعر أهمية هذه الأوقات الفضيلة، وأن يستثمرها مع هذا الكتاب العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
إنني أدعو دائماً من هذا المنبر الثقافي المميز إلى استثمار الأوقات بالقراءة، تلك التي تنمي الذوق وتحسن الأسلوب وتزيد من الحصيلة المعرفية والثقافية، لكنني أستثني هذا الشهر المبارك من هذه الدعوة، والتوقف تماماً عن كل قراءة، غير قراءة هذا الكتاب الكريم، والإقبال عليه في كل وقت من أوقات هذا الشهر العظيم.
إننا مقصرون جداً في تلاوة هذا الذكر الحكيم، ومنشغلون جداً بقراءات دنيوية كثير منها لا يسمن ولا يغني من جوع، ويمكن تأجيلها إلى أوقات أخرى من هذا العام، فلا أقل من تخصيص هذا الشهر الكريم بتلاوة آيات هذا الوحي العظيم، والجمع بين المتعة الروحية في الدنيا والأجر العظيم في الآخرة، فمن قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها.
إنَّ القراءة التي أدعو إليها في هذا الشهر المبارك ليست القراءة العادية التي اعتاد عليها عامة الناس، تلك القراءة التي تُهذُّ فيها الحروف والكلمات هذَّاً، دون أن يدرك القارئ فيها معاني ما يقرأ، ودون أن يفهم الدلالات والإيحاءات والإشارات التي يشع بها النظم الكريم.
إنَّ القراءة الجادة للقرآن الكريم ينبغي ألا تكون كالقراءات الأخرى، تلك التي تكتفي فيها بالمرور السريع العاجل على أسطح العبارات، دون أن تقف معها وقفة تأمل وتدبر طويلة، تستشعر فيها معاني الآيات العظيمة، وتتفكر في كيفية نظمها وبنائها، وتنظر في سياقاتها، وتبحث عن جمالياتها، وتنقب عن أسرارها البلاغية والبيانية، ولن يتم لك ذلك إلا بأمور؛ منها: الوقوف الطويل الجاد عند كل آية، والعزم الأكيد على محاولة فهمها فهما كاملا، واستيعاب دلالاتها، وما فيها من معان عظيمة وبلاغة بديعة، ومنها: الرجوع إلى كتب المفسرين الثقات، الذين أفنوا أعمارهم في بيان معاني الآيات، والكشف عما فيها من قيم دلالية وجمالية، وبوجود التقنية وتطورها أصبح الأمر سهلا جدا للوصول إلى هذه المعلومات، وبأقل وقت وجهد، ومنها: سؤال المختصين الثقات من علماء التفسير والعربية فيما يشكل من معاني بعض الآيات، وقد أضحى الأمر سهلا أيضاً مع وجود وسائل التواصل الاجتماعي.
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم لا يتجاوزون عشر آيات حتى يعلموا ما فيهنَّ من العلم والعمل، وما أجمل أن نقتدي بهم في ذلك، فإن لم نتمكن فينبغي على الأقل ألا نرضى بمجرد القراءة العادية التي لا تتجاوز الحناجر ولا تتعدَّى التراقي، تلك القراءة التي يخرج منها أصحابها دون فائدة مثلما دخلوا فيها، ولربما ضاعت أوقاتهم في هذا الشهر الكريم دون فائدة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!
إن قراءة القرآن الكريم بطريقة متقنة وكيفية مثالية، تضمن للقارئ الزاد المعرفي والثقافي، وتحمل له المتعة الروحية النفسية، وتتيح له الاستمتاع بالجمال الرباني في الألفاظ والمعاني والصور الفنية، وتكشف له عن براعة النظم وجمال التركيب ودقة الاختيار وقوة الإقناع وبلاغة التأثير، ومثل هذا لا يمكن أن يتم بقراءة لا يُقام فيها سوى الحروف فحسب كما هي معظم قراءاتنا مع بالغ الأسف!
إنَّ من أجل الغايات التي من أجلها أُنزل القرآن: التدبر في آياته، والتفكر في ألفاظه ودلالاته، يقول عز وجل: (كتاب أنزلناه إليه مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولول الألباب)، ويقول تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)، يقول السخاوي رحمه الله: «اعلم أنَّ القرآن العزيز يُقرأ للتعلُّم، فالواجب التقليل والتكرير، ويُقرأ للتدبر، فالواجب الترتيل والتوقف، ويُقرأ لتحصيل الأجر بكثرة القراءة، فله أن يقرأ ما استطاع، ولا يؤنَّب إذا أراد الإسراع»، ولا شك أنَّ تحقيق هذه الغايات جميعاً نعمة لا يعادلها نعمة لمن وفق لها وسعى إليها، خاصة في هذا الشهر المبارك الذي تمر أيامه عجلى، وفي كل مرة نتحسَّر على ضياعها، ونعضُّ أصابع الندم على فواتها. تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام، ورزقنا وإياكم تلاوة كتابه على الوجه الذي يرضيه عنا.