د.عبدالله الغذامي
تروى القصص أن بدوياً من قبيلة هذيل نزل من الجبل إلى مكة المكرمة، وهاله حين رأى القهوة تباع بدراهم في المقاهي العامة، ولم يجد أحداً يرحب به أو يقدم له الضيافة العربية التي يعرفها عن نفسه وأهله، ولو حدث أن جاء رجل من أهل مكة إلى أراضي هذيل على ضفاف مكة، لبادره الناس بالقهوة والضيافة، وتولوا إكرامه والاهتمام به حتى يرحل، ولكن الذي حدث لهذا الهذلي أن رأى الأكل يُباع والقهوة تباع، في حين هو ضيف على البلد، ومن هنا قال قصيدة يهجو بها البشر الذين يبيعون القهوة، وسارت قصيدته وقصته مسارها في الرواية الشعبية، لتكشف الفروق الثقافية بين بيئتين، إحداهما بيئة الكرم والضيافة والأخرى بيئة التجارة، وتكررت قصص كثيرة تماثل هذه عن شيوخ قبائل استقبلوا رجالاً من الرحالة الأوروبيين، وضيفوهم الكرم العربي وسجايا البادية وساعدوهم وتولوا أمرهم،وبعضهم أقام لأشهر، وحدث أن زار أحد هؤلاء الشيوخ لندن للعلاج وبحث عن واحد من المستعربين الرحالة للسلام عليه وتذكار العهد، ولكنه تفاجأ به يكتفي برد التحية والسلام ولا أكثر من ذلك، وهذا ما دعا الشيخ لأن يصف صاحبه بقلة الخاتمة وكلما سأله أحد عن الرحالة رد عليهم بقوله: فلان ردي، وهو تعبير يكفي لوصم أي أحد وصفاً يقلّل من مقامه ومن أصله ومسلكه .
هنا تتصادم القيم الثقافية بين قيمة تقوم على العطاء والبذل، وقيمة تقوم على الكسب واستثمار الفرص، حتى لتكون العلاقات العامة صيغة تجارية وربحية، وغير الرابح منها لا يقام لها وزن، والزمن ينتصر لمعاني التجارة ويتخلى عن معاني البذل، في تبدل ذهني ومسلكي يجعل التجارة ميزة وفي المقابل سيبدو البذل وكأنه سذاجة بدائية ويمثل مرحلة فاتت ولم تعد محل اعتبار .