صدر هذا الشهر عن نادي حائل الأدبي الثقافي، كتاب للدكتور علي القاسمي عنوانه «مفاهيم الثقافة العربية»، يقع في 318 صفحة من القطع الكبير، ويشتمل على مقدمة بقلم رئيس النادي الأستاذ الدكتور نايف بن مهيلب الشمري، وسبعة عشر فصلاً يتناول أولها مفهوم المفهوم، وتدور الفصول الباقية حول المفاهيم التالية: الحياة، الحرية، العِلم، الوطن، الجوار، التكبّر والتواضع، الصداقة، المرأة، الحبّ، الجمال، المال، الكرم، الغربة والاغتراب، البكاء، الشيخوخة، الموت. ويجمع الكتاب بين الفلسفة والأدب، أو قُل قضايا فلسفية على عروش أدبية يانعة. وكُتِبت فصول الكتاب بأسلوب ميسّر سلس يسهّل القراءة ويدعم الاستيعاب.
يقول الدكتور الشمري في تقديمه للكتاب: «يأتي هذا المنجَز الثقافي (مفاهيم الثقافة العربية) في نهج جديد وطرح غير مسبوق... حيث استطاع الباحث، من خلال خبرته الطويلة ومؤلفاته المتنوعة، أن يضع لنا مادة ثقافية جمعت بين الأمثال السائرة والأقوال المأثورة، وصولاً إلى تأصيل فلسفي نحو ثقافة المفاهيم؛ مستفيداً من ثروته اللغوية، وإسهاماته في مجامع اللغة العربية، ودربه الطويلة حفراً في أخاديد اللغة العربية وأسرارها...»
وسنعرض فيما يلي لمحة عن بعض المفاهيم التي تناولها الكتاب.
ـ مفهوم المفهوم:1
في فصله الأول، «مفهوم المفهوم» الذي يُعدُّ مقدمة الكتاب، يعرّف المؤلّف « المفهوم» بأنه تمثيلٌ فكري أو تصوُّرٌ ذهني لشيء ما أو لصنفٍ من الأشياء التي لها خصائص مشتركة، ويعبَّر عنه بمصطلحٍ أو رمزٍ حرفيّ أو أي رمز آخر، بحيث إذا ذُكِرَ المصطلحُ أو الرمزُ أمام المرء، يتبادر إلى ذهنه صورة ذلك المفهوم فيحصل عندئذٍ فهم الكلام.
وفي هذا الفصل يتطرق المؤلِّف إلى خصائص المفهوم الجوهرية، وهي تلك السمات الرئيسة الذاتية الدائمة الثابتة للشيء، مثل خصائص الشكل ( مسمار لولبي)، والحجم (نُهير)، والمادة (منضدة خشبية)، واللون (الأشعة فوق البنفسجية)، والطعم (حامض النتريك)، والحرارة ( 5 تحت الصفر). ويشرح خصائص المفهوم العرضية وهي السمات الثانوية الخارجة عن ذات المفهوم، مثل خصائص الغرض كالوظيفة (ساعة منبِّهة)، والموضع ( عجلة خلفية) وطريقة الصنع (حرير صناعي)، وبلد المنشأ ( سيف يماني)، والمُنتِج ( سيارة مرسيدس).
ويتطرق المؤلِّف بالشرح إلى بُعدي المفهوم الأساسيين: الكمي والكيفي، وإلى تكوين المفاهيم في ذهن الإنسان، والشبكات المفهومية حيث ترتبط المفاهيم فيما بينها بعلاقات منطقية ووجودية. ويجرّه هذا الموضوع إلى الخوض في العلاقة بين اللغة والفكر، والاعتراضات على هذه المقاربة العقلانية للوجود.
ـ مفهوم الحياة:2
في فصل (مفهوم الحياة)، يحاول المؤلِّف أن يستخلص سرَّ الحياة من النصوص الدينية والأدبية العربية، فيرى أن الأدباء العرب، منذ العصر الجاهلي حتى يومنا هذا، يعربون عن جهلهم التام بهذا السر ويلخص هذه اللاأدرية إيليا أبو ماضي في قصيدته المشهورة «لست أدري»:
جئتُ لا أعلمُ من أينَ، ولكنّي أتيتْ
ولقد أبصرتُ قدامي طريقاً فمشيتْ
وسأبقى سائراً إن شئتُ هذا أم أبيتْ
كيف جئتُ؟ كيف ابصرتُ طريقي؟
لستُ أدري.
وتشتمل هذه اللاأدرية على جبرية الحياة، فهي مفروضة علينا وليست باختيارنا؛ إذ إنها في حقيقتها مثل « ذلكَ القيد الذي يضحكُ منّي عليّا»، كما قال الشاعر المغربي عبد الكريم ثابت (1915 ـ 1961). وبتعبير أحد رواد الشعر الحرّ العراقي عبد الوهاب البياتي ( 1926 ـ 1999):
محكوم بالإعدام أنا
مع وقف التنفيذ
عقوبتي: الحياة.
والعرب جميعاً، علماء وأدباء وشعراء وجميع الناس، يعلمون أن الحياة زائلة، تماماً مثل أحلام نائمٍ، أو مثل ظلٍّ زائل، أو مثل أصداء الخُطى. كما أنهم يُدركون أن الحياة قصيرة مهما طالت، وأنها لا تتسع لآمالنا وطموحاتنا أو كما قال الشاعر العباسي البحتري(ت 284 هـ):
لنا في الدهر آمالٌ طوال
نرجّيها، وأعمارٌ قصارُ
والحياة تنطوي في ذاتها على الموت، فسعينا في الحياة يسير بنا إلى الموت، فالحياة تقوّض نفسها بنفسها، أو كما قال الشاعر أبو الفتح البستي (ت 400 هـ):
كذلك دودُ القزِّ ينسجُ دائماً
ويهلك غماً وسط ما هو ناسجُهْ
ويستخلص المؤلِّف خصائص الحياة المثالية في الثقافة العربية فيلخّصها في ثلاث: الأمن، والصحة، والمعيشة التي تليق بالكرامة الإنسانية. ولكن كيف ينبغي لنا أن نعيش حياتنا بعد ذلك؟ يستعرض المؤلِّف الأجوبة المختلفة التي تقدّمها الثقافة العربية منذ ملحمة جلجامش إلى أدباء القرن الحادي والعشرين الميلادي، ويلخّصها في جوابيْن:
الأول للشاعر البحريني الجاهلي، طرفة بن العبد في معلقته ( ت 569م):
ألا أيهذا اللائمي أحضُرَ الوغى
وأن أشهد اللذاتِ، هل أنتَ مُخلِدي؟
فإن كنتَ لا تسطيعُ دفع منيتي فدعني أُبادرها بما ملكت يدي
والثاني لفقيه أندلسي من القرن الخامس الهجري هو سليمان الباجي الذي قال:
إذا كنتُ أعلم علماً يقيناً
بأنَّ جميع حياتي كساعهْ
فَلِمْ لا أكون ضنيناً بها
وأجعلها في صلاح وطاعهْ
ويختم المؤلّف فصله هذا في مناقشة قضيتين هما سأم الحياة والخلود في الحياة.
ـ مفهوم الحرية:3
يبدأ المؤلِّف هذا الفصل بمقولتيْن هما:
«الوعي بقضية الحرية هو منبع الحرية» للدكتور عبد الله العروي في كتابه « مفهوم الحرية»، و» الأحرار وحدهم يكتبون عن الحرية» لجبران خليل جبران في كتابه « النبي.
يعرّف المؤلّف أوّلاً الحرّية بأنها حالة يكون فيها الإنسان قادراً على مزاولة إرادته في الفعل أو عدم الفعل من دون ضغوط خارجية (جسدية) أو داخلية ( نفسية) تحدُّ من تلك الإرادة.
ثم يقدّم دراسة تاريخية فلسفية حول تطور مفهوم الحرية في مراحل متعدِّدة كان أولها التحرُّر من الطبيعة بعد أن كان الإنسان جزءً من الطبيعة، مثل بقية الحيوانات، ثم أخذ يستخدم ثقافته في التحكُّم بالطبيعة واستثمارها لترقية حياته. ثم التحرُّر من السلطة، عندما أصدر الملك أوركاجينا الذي اعتلى العرش في مدينة لجش السومرية حوالي عام 2350 ق.م. وثيقةَ قوانين تحدُّ من تعسف السلطة وتحمي حرية المواطن. ويقول الباحث الروسي الأمريكي صموئيل نوح كريمر ( 1897 ـ 1990) في كتابه « السومريون» إن تلك الوثيقة استخدمت كلمة « حريّة» لأول مرة في التاريخ المدون للإنسان.
ثم أصبحت كلمة « حرية « مقابلاً للأسر، ثم مقابلاً للسجن، ثم مقابلاً للعبودية التي صارت نظاماً اقتصادياً في العالم لفترات طويلة، ثم مقابلاً للحواجز المادية أو النفسية التي تمنع الإنسان من التصرُّف بكامل إرادته، كما في حالة الشاعر الضرير أبو العلاء المعري ( ت 449 هـ) الذي قال:
أراني في الثلاثةِ من سجوني
فلا تسـأل عن الخبر النبيثِ
لفقدي ناظري، ولزوم بيتي
وكون النفس في الجسد الخبيثِ
وقد أصبحت الحرية لدى المتصوفة حريّة النفس من الشهوات، فقال الجنيد شيخ الطريقة في عصره « الحرية هي حرية القلب لا غير.»
وفي العصر الحديث، توسّع مفهوم الحرية، بحيث أصبحت الحرية ضد الاستبداد، وضد الاستعمار، وأقرّت الحكومات ثلاثة أنواع من الحريات هي:
ـ الحريات الطبيعية التي يتمتَّع بها الإنسان بوصفه كائناً حيّاً مثل حرية الحركة والتنقل.
ـ الحريات المدنية التي تكفلها الدولة لجميع القاطنين بها، مثل حرية الزواج وتكوين الأسرة وحرية التعاقد، إلخ.
ـ الحريات السياسية التي يخولها القانون للمواطن للقيام بأعمالٍ لها ارتباط بحقوق الناس مثل حرية المعتقد، وحرية التعبير عن الرأي ، وحرية المشاركة في الانتخابات، وحرية إصدار الصحف.
-وتوسعت الأمم المتحدة مؤخَّراً فأضافت الحريات الاقتصادية التي تضمن للمواطن دخلاً يحقّق له حياة تليق بالكرامة الإنسانية. وأصبح في وسعنا النظر إلى الحرية بأنها مقابل الفقر.
ويدرس المؤلّف الحرية من زاوية علم النفس، ليقرر ما إذا كانت الحرية طبع أم تطبع، وتميل الثقافة العربية إلى أن الإنسان ولد حراً ، فالحرية هي جزء من طبيعته، كما في مقولة الخليفة عمر بن الخطاب (ر): « متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟» وكذلك مقولة ألإمام علي كرم الله وجهه: « لا تكُن عبد غيركَ وقد جعلك الله حراً» ، وهي مقولة نظمها أحدهم شعراً:
حُراً ولِدتَ فلا تكُنْ مستعبدا لا العبدَ كنتَ ولا سواكَ السيدا
ويختم المؤلّف هذا الفصل في مناقشة حدود الحرية، وربط الحرية بالمسؤولية، وجرّه هذا الموضوع إلى مناقشة الجبر والاختيار في الفكر الإسلامي، وهل الإنسان حرّ في اختيارِ أفعاله أم أنه مسيّر في ذلك
الخاتمة:
نكتفي بهذه النماذج من الكتاب، ونختم مقالنا بما ورد في مقدمة الناشر الدكتور الشمري:
« وكلما قلبت ناظريك على شاطئ هذا المنجز الثقافي، ألفيته حدائق يانعة ونخيلاً باسقة تستحق الوقوف والاغتراف من كل لون وطيف، حيث يقرع المؤلّف جرس الحب وإيقاع الجمال...إنه بلا شك كنز من كنوز المعرفة، ونتشرف بطباعته في نادي حائل الأدبي ، وسيكون بمثابة واسطة العقد في إصدارات النادي
** **
- الدكتورة/ سناء الشعلان