أو كما سُمّيت في الغرب بإميلي روث أو رويته وهذه الرسائل تعتبر الجزء الثاني لما عرف به سابقاً (مذكرات أميرة عربية) وفي هذا الجزء تلخص حياتها في ألمانيا كسيرة ذاتية متصلة وكأنها تراسل صديقة لها في زنجبار والحقيقة أنها تخاطب شخصها الوهمي التي تركته هناك لأنها لم تذكر اسماً كما أنها لم تتحدث عن أي رسائل متبادلة! وقد هفا قلبها إلى ذكر الصبا ومراتع الآرام فكانت كلماتها كالبلسم الذي تحاول فيه أن تداوي به جروح الغربة، فما أصعب على المرء شيء أكثر من أن يجد نفسه في مكان لم يألفه ولا يقارب بيئته وقد بدا فيه غريباً كالطريد الذي لم يجد ملجأ يأنس فيه حتى يحتمي به من عوادي الزمن وبشاعة البعد! خسرت أشياءً هي لها كالظل أوكالخل الوفي وقد تركت داراً كانت بها أميرة مرفهة مدللة وسط أسرتها وأحبائها، وحلّت في دار بينها وبين ساكنيها أمداً بعيداً في اللغة والتقاليد والدين وإن كانت قريبة عهد بهذا، أمداً في كل شيء حتى في الروح والوجدان والعقل، فشتان بينها كعربية من أصل عرب أقحاح وجرمان أصليين لا يرغبون فيها إلاً ولا ذمة كما صورتهم من الجلافة والعجرفة الألمانية ما عدا بعض المواقف أحياناً من بعض الأشخاص الذين سطرت لهم ثناء. هكذا كانت حياة سالمة بنت سعيد في ألمانيا! فما بين الأسطر وبين ثنايا حروفها وخلال كلماتها ووسط عباراتها وجملها التي ساقتها بلغة واضحة ومتميزة إحساس عن تجربة ثرية في اللغة والثقافة وتجربة في الحياة خارج الديار بعيداً عن الأب والأم والأخ والأخت، في ذاك الوقت من سنة 1867م رغم الظروف الصعبة التي تكالبت عليها وجعلتها فريسة للأمراض الجسدية والنفسية فإنك أيضاً تجد شعور الندم والحزن وشعور الإحباط واليأس والمعاناة التي بدأت منذ انطلاقها من عدن حتى وفاتها!
لم تتطرق سالمة إلى مصطلحات الدين المسيحي في فصولها لكونها لم تتأدلج على ذلك وكانت تتحسر على تركها الإسلام وإن لم تبح به من خلال عبارات المدح والثناء وعبر المقارنة حين تقول (لا تضحية أكبر من تغيير الدين، فلا المكانة ولا الغنى ولا التحضر الغربي يمكن أن يكون بديلاً من ديننا المقدّس..)! وأرى ضعف شخصيتها في ذلك بجانب حياتها المهملة من قبل، قد تركاها تعلن الاستسلام في تبعة من تحب وكان عليها أن تجعله يتبعها هو كما نعرف عن النساء ويكون من يبدل دينه لا أن تكون هي وخصوصاً أنها من بيت ينتمي إلى جاه وقوة لا إلى عوز وفقر.
موت الزوج في وقت قصير من حياتها الجديدة جعلها نهباً للتردد فقد اختلطت حياتها بين الاستقرار المؤقت والتنقل السريع بين المدن حسب الظروف الاقتصادية ممَ جعلها تكتسب خبرة أكثر واطلاعاً على الحياة الأوروبية التي ذكرت فيها أهمية التعليم القصوى في حياة الفرد والمجتمع كإحدى الفوارق بيننا وبينهم منذ أمد بعيد كذلك بروتوكولات الحفلات والزيارات والاستقبال وأسلوب الحياة ككل، ولكن تبقى التقاليد الشرقية علامة فارقة ومميزة تفتخر فيها حين تصفها بالعفوية التقليدية التي تنم عن كرم متأصل بينما يبدو الأوروبيون في معاملاتهم كالآلة الصماء التي لا تتغير حسب الظروف وتقلبات الحياة! عاشت سالمة مخلصة لزوجها كما يريد ولأبنائها الذين أظلتهم بعاطفتها التي تميزت بها في حديثها حتى دُفنت بجانب زوجها في مقبرة أولسدورف بهامبوررغ! وهذه إشارة إلى عدم رجوعها للإسلام على أن حديثها كان يشعرني أنّ في آخر المطاف سأجد إذعانها لضميرها الذي أنّبها كثيراً لتخليها عن دينها.
** **
- زياد السبيت