يترقب مثقفو العالم العربي وأدباؤه مطلع كل شهر هجري ليتصفحوا ما حملته المجلة العربية من مقالات أدبية ونصوص إبداعية في ظل غياب واضح للمجلات التي تُعنى بالأدب العربي.. ولا يقل تلهفهم للمجلة العربية عن شوقهم لاستقبال رديفها ألا وهو كتاب الشهر الذي ابتدأ صدور العدد الأول من سلسلته مع العدد الستين بعد المائتين من أعداد المجلة في المحرم من سنة 1418الموافق مايو 1997واستمرت السلسلة بعد ذلك دون انقطاع.
الإصدار ذو الرقم 258 كان كتاب (السيرة الذاتية في التراث العربي) للدكتور أسامة البحيري. هذا الكتيب الذي لم تتجاوز صفحاته خمسا وسبعين جاء وافيا في موضوعه، فقد بين أنماط السيرة الذاتية التي عرفها العرب وألفوا فيها، وبين خصائصها، ومثل لكل نمط ثم عرض - بالتفصيل - أنموذجا واحدا لكل نوع.
وقد يتوقع القارئ أن يبدأ المؤلف حديثه بإثبات وجود هذا الفن لدى العرب، والرد على من ينكر ذلك، لكن المؤلف أغفل عن عمد هذا الحديث؛ بل نصَ على أنه لن يتعرض له لأن المسألة محسومة بالنسبة له. يقول في خاتمة الكتاب: «عني البحث بالحديث عن أنماط السيرة الذاتية في التراث العربي، ولم يتعرض لمناقشة قضية وجود السيرة الذاتية في تراثنا القديم، لاعتقاد الباحث أن الرأي قد حسم في هذا الموضوع بنشر عدد كبير ومتنوع من كتب السير الذاتية القديمة، وأن إنكار وجود السيرة الذاتية في أدبنا العربي القديم (سواء من المستشرقين أو العرب) ينم عن جهل واضح، أو إغفال متعمد لكنوز تراثنا العربي العريق».
يبدأ المؤلف بتمهيد عنوانه (السيرة الذاتية وأنواعها في التراث العربي) استهله بتعريف مبسط للسيرة الذاتية، فقال إنها: «رواية (سرد) كاتب (ذات) لأجزاء من حياته الشخصية بأسلوب أدبي». ص9
وقد بين المؤلف أن التراث مليء بالسير الذاتية التي كتبها مؤلفوها في رسائل خاصة، أو جعلوها مقدمات لكتب، أو خصصوا لها كتبا مستقلة. ثم قسم أنواع السير الذاتية لديهم على النحو التالي:
1-السيرة الذاتية الروحية أو (الذهنية) التي تصور رحلة صاحبها للبحث عن الحقيقة واليقين بين الأديان والمذاهب والفلسفات والعلوم حتى يصل إلى اليقين الذي يطمئن إليه. وسرد عددا ممن كانت سيرهم الذاتية من هذا النوع مثل سلمان الفارسي رضي الله عنه والترمذي وابن الهيثم والإمام الغزالي.
2- السيرة الذاتية السياسية حيث يسجل صاحبها الأحداث التي شهدها، والمعارك التي شارك فيها، والمناصب التي تولاها، ومن التقى بهم من خاصة القوم وعامتهم. وضرب المؤلف الأمثلة بسيرة الأمير عبدالله بن بلقين، وسيرة عمارة بن أبي الحسن الحكمي اليمني، وأسامة بن منقذ.
3- السيرة الذاتية العلمية وفيها يوثق الرحالة رحلاته في طلب العلم، ومن لقي من العلماء، وأخذ منهم، والكتب التي قرأها أو اقتناها، والمناصب العلمية التي تولاها؛ كسيرة ابن سيناء وابن خلدون والسيوطي..
وبيّن المؤلف أن كتَّاب السير لم يلتزموا حرفيا بهذه التقسيمات، فجاءت سير بعضهم مزيجا من هذه الأنواع الثلاثة لكن العبرة هي في الجانب الغالب على كل سيرة.
وقد تناول المؤلف بعد ذلك في كل فصل من الفصول الثلاثة الأوائل كتابا عدَّه وصاحبَه ممثلين للنوع الذي يتحدث عنه..
فالفصل الأول (السيرة الذاتية الروحية) خصصه للإمام الغزالي وكتابه (المنقذ من الضلال) وقال إن الغزالي قد اطلع واستفاد ممن سبقوه؛ كسلمان الفارسي والحارث بن أسد المحاسبي وابن الهيثم، لكن سيرته تميزت عن سير من سبقوه بالاستيعاب وذكر التفاصيل ومناقشة المذاهب والآراء، وعرض محطات حياته من الشك إلى الحيرة فالبحث فالرحلة ثم الانتقال الذهني والجسدي، وأخيرا الوصول إلى اليقين. لقد استغرقت هذه الرحلة ثماني عشرة سنة إذ بدأ رحلته وهو في العشرين ولم ينته منها إلا وهو في الثامنة والثلاثين، وقد تنقَّل فيها من الأخذ بعلم الكلام ثم الفلسفة ثم الباطنية، وأخيرا انتهى إلى التصوف، ولم يمنعه توقفه عند التصوف أن ينتقد شطحاتهم كقولهم بالحلول والاتحاد.
والفصل الثاني (السيرة السياسية) ويمثلها أسامة بن منقذ في كتابه (الاعتبار) وقد بين المؤلف أن العرب والمستشرقين قد أولوه اهتمامهم؛ نظرا لكونه من أهم المصادر في تاريخ الحروب الصليبية، والتعاملات بين المسلمين والصليبيين في الحرب والسلم.
وقد كتب سيرته هذه بعد أن شاخ؛ مما أتاح لها أن تكون سيرة شاملة لكل فصول حياته، كما منحته الكتابة بوعيٍ وتروٍّ بعيدا عن انفعال اللحظة أو الموقف، إلا أن هذا التأخر في تدوين السيرة قد جعله يغفل بعض التفاصيل بسبب ضعف الذاكرة.
لقد صاغ كتابه بأسلوب قصصي شائق، وأضفى عليه شيئا من الخيال، وحرص على الظهور أمام القارئ بصورة إيجابية؛ فلم يتطرق فيه لأموره العاطفية وشؤونه العائلية، وطوى بعض الحوادث من سيرته.
وقد قسم كتابه ثلاثة أقسام؛ الأول تحدث فيه عن قصة حياته ونشأته والمعارك التي خاضها. والثاني أورد فيه أخبارا طريفة تتصل بالرؤى والأحلام والخوارق التي سمع بها أو رآها. وفي الجزء الثالث تناول أخبار القنص مع مشاهير عصره، وخصائص الجوارح والضواري وأدوات الصيد.
والفصل الثالث من كتاب الدكتور البحيري خصصه لـ (السيرة العلمية) وقد مثل لها بالعلامة ابن خلدون وكتابه (التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا). وعدّه أنموذجا مطولا للسير الذاتية العلمية؛ لأن من قبله كانت سيرهم رسائل قصيرة أو ملحقات بكتبهم على شكل تراجم. ثم أشار إلى أنه كتبها دفاعا عن نفسه للرد على الاتهامات التي تطعن في كفايته العلمية لتولي المناصب التعليمة والدينية. ولذا جاء معظم حديثه عن رحلاته في طلب العلم وأشياخه ومؤلفاته، مع إشارة موجزة لنسبه وأسرته. وغلب على كتابته النزعة التاريخية والتوثيقية بأسلوبه الجزل المرسل مما أتاح لكتبه الذيوع بين مختلف طبقات الجمهور.
أما الفصل الرابع - وهو الأخير - من كتاب د. البحيري فقد جعله لـ (التشكيل الزمني في السيرة الذاتية في التراث العربي) لأن نقاد السرديات قد عدوا الزمن «مكونا أساسيا من مكونات النص السردي له وجود موضوعي ملموس كوجود النص ذاته، وهو ملازم له بحيث لا يمكن تخيل السرد بدونه». ص51
يهتم الترتيب الزمني بضبط العلاقات بين الأحداث (الحكاية) في تتابعها زمن وقوعها، وهو ما يعرف بـ (المتن الحكائي) وبين رواية الأحداث في النص السردي، وهو ما يعرف بـ (المبنى الحكائي). ويمكن حصر العلاقات بيت المتن الحكائي والمبنى الحكائي في ثلاثة أنساق:
1 – نسق التوازن المثالي؛ وفيه يتوازى زمن كتابة الأحداث في النص السردي مع زمن وقوعها. ويسمى النسق الزمني الصاعد.
2 – نسق القلب؛ وفيه تكتب الأحداث في النص السردي عكس وقوعها، ويسمى النسق الزمني الهابط.
3 – النسق الزمني المتقطع؛ وفيه يبدأ السرد من نقطة معينة يختارها المؤلف من وسط الأحداث المحكية، وتتشعب بعدها مساراته الزمنية، ويمكن تسميته بـ (النسق الزمني المتوتر).
وبعد هذا التقسيم أوضح المؤلف أن السير الذاتية يختلف فيها تشكيل الزمن بحسب نوعها، فالسيرة الروحية يغلب عليها النسق الزمني الصاعد، في حين يسيطر الزمن المتوتر على معظم السير السياسية.
** **
- سعد عبدالله الغريبي