التطور لكل المجتمعات ناموس من نواميس الحياة لا يمكن تجاوزه أو إغفاله أو إيقافه! ولكن بمقارنة بسيطة بين شعوب الأرض نجد تفاوت واضح في مستوى ذلك التطور. كما أن سرعة التطور تختلف اختلافا شديدا بين الدول، فتراها سرعة هائلة لدى الشعوب المتقدمة مقارنة بالسرعة التي تكاد لا تشعر بها لدى الشعوب المتخلفة، كما أن المحصلة العامة للتطور تصاعدية، وهي خط بياني مستقيم نرسمه على الورقة لا يمثل مسار التطور الإجتماعي في الواقع المعاش! فمسار التطور الاجتماعي متموج وليس مستقيماً، والموجة التي تعلو المحصلة العامة تبدو لنا أنها هي التطور وحسب، أي إذا أوردنا مثالاً لتوضيح الصورة: نحن كأمّة إسلامية بدأت موجتنا التي تعلو المحصلة منذ انبثاق الرسالة النبوية العظيمة، ثم سارت بشكل تصاعدي حتى بلغت ذروتها في عصور هارون الرشيد وأولاده الذهبية، ثم استمرت نزولاً حتى انهيار الدولة العباسية.
بعد العباسيين انحدرت موجة التطور الاجتماعي لدينا تحت المحصلة العامة إبّان الحكم العثماني، وبالرغم من استمرار ذلك الحكم لأكثر من 600عام إلا أننا لم نسقطه بأيدينا لنمتطي موجة تصاعدية أخرى، بل جرت عملية استبدال استعمار عثماني باستعمار غربي.
كانت الثورة العربية الكبرى ستضع نهاية لموجة «الاحتقان» المنحدرة تحت المحصلة العامة لتطورنا، ولكن الإمبراطورية العثمانية المريضة والمهزومة رأت في «الثورة» خطراً عليها أشد من خطر الأوروبيين المتربصين بها في الحرب العالمية الأولى. لذلك تمت الصفقة الكبرى بتاريخنا، حيث اتفق العثمانيون مع الأوروبيين على بيعنا لهم مقابل قمع الثورة وعدم تمزيق تركيا، بل منحها أرضاً ليست لها وهي لواء اسكندرون.
تطورنا كان عظيما ويعلو المحصلة عندما كان طبيعيا، أي بدون قوى خارجية تقمع أو تعيق ذلك التطور، بل إن رسالتنا للعالم لم تكن استعمارية! إنما كانت وبلا فخر من أجل ازدهار شعوب الأرض قاطبة، وسرنا بسنة من قال (لا فرق بين عربي ولا أعجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى)، أما حينما تفشى الفساد بالدولة العباسية ووصلت حافة الانهيار، قمعت كل ما يمت بصلة لنهوض اجتماعي جديد وسلمت مصيرنا للأجنبي بحجة «الخلافة».
ما أريد قوله أن «دور» الفرد بتسريع أو إبطاء التطور الاجتماعي بالغ الوضوح على امتداد التاريخ البشري كله، والفرد بالمفهوم الفلسفي ليس شخصاً واحداً وحسب، إنما بالإمكان أن يكون جماعة على شكل جمعية أو منظمة أو هيئة أو صحافة أو إعلام بشكل عام ...الخ. وإذا اتسعت دائرة المجتمع، أي عندما نتحدث عن المجتمع البشري كله، يكون مفهوم «دور الفرد» على شكل دولة أو مجموعة دول متحالفة أو قطب ...الخ. ولكن يبقى دور الفرد هو: تسريع أو إبطاء التطور! إذن لماذا يقال في الفلسفة أن التطور خارج الإرادة البشرية وهو سنة الحياة؟
يكمن «دور» الفرد الإيجابي» في التاريخ والجغرافيا، ومهما امتلك من القوة ورباط الخيل، في تسريع التطور الاجتماعي ولكنه لا يستطيع حرق المراحل! أما «الدور السلبي» للفرد يستطيع إبطاء التطور ولكنه لا يستطيع إيقافه!
إذا ما عدنا إلى مثالنا السابق نجد أن العثمانيون ومن تلاهم ومن حالفهم لم يستطيعوا إيقاف التطور! لا إبّان حكمهم ولا إبان تآمرهم مع المستعمر الغربي. فقد اندلعت الثورة العربية الكبرى لكنس إمبراطوريتهم، أما فيما بعد ذلك عجز الاستعمار الغربي، بالرغم من التحالف مع العثمانيين والصهاينة وأدوات أخرى على امتداد الجغرافيا، لم يستطع الاستعمار إيقاف التطور واندلعت ثورة «مستمرّة» عربية أخرى تفوق بعشرات الأضعاف ما كانت تتمتع به الثورة العربية الكبرى في بداية القرن العشرين! وليست خاضعة للخديعة «بلورنس العرب» أو غيره، كما أنها ليست خاضعة للإيهام بتسميات مثل «الربيع العربي»، تعي تماماً أن التغيير في التاريخ كله كان يبتدئ من هذه الأرض المقدسة، وأن العرب كما وصفهم الرب سبحانه (كنتم خير أمة أخرجت للناس) قادرون على تقديم التضحيات الأسطورية لتنفيذ مشيئة الرحمن وبناء نظام دولي جديد.
لا يتوهمن أحد بأننا بلغنا «النهاية» بإسقاط هذا المستبد أو ذاك، ولا بالصمود ضد هذا العدوان أو ذاك، ولا حتى بصد هذا العدوان أو ذاك، ولازال الطريق نحو «الربيع البشري» هو «درب الآلام» كما قال «تولستوي»، ولازلنا في بدايته، ولن «نحرق المراحل»! ولكننا مدعوون بإلحاح شديد لتوحيد المسار على أساس الهدف الأسمى والذي لا يقبل الوصفات الجاهزة، ألا وهو تسريع التطور، أي الحداثة.
** **
- د. عادل العلي