ياسر صالح البهيجان
كان مفهوم السياحة ببعده الترفيهي مرتبطًا بنمط الحياة الفاخرة منذ عهد فراعنة مصر وقياصرة روما وفلاسفة اليونان، وكانت سمة تمييزيّة بين الطبقة الثريّة والأخرى العاملة، ليس لعامل ارتفاع التكلفة وغلاء التنقّل فحسب، بل وأيضًا بسبب أن الطبقة الكادحة لا تجد وقتًا لمثل هذا اللهو في ظل ركضها خلف توفير سبل عيشها وإيجاد لقمة يومها، لذا لم تكن الرحلات السياحية سوى أضغاث أحلام بالنسبة للبسطاء، وقتها لم توجد الطبقة المتوسطة بين النقيضين الثراء الفاحش والفقر المدقع ما مثّل عائقًا أمام تفكير المجتمعات البشريّة في جعل السياحة صناعة قادرة على دعم الاقتصاد وتنميته.
في القرن الثاني عشر، اتجهت الحكومات الأوروبيّة إلى إنشاء ما يُعرف بـ»السياحة التعليمية»، في خطوة جبّارة غيّرت معنى «السياحة»، وكسرت احتكارها من الطبقات الغنيّة، واتجهت بوصلتها صوب الطلاب، وبدأت بابتعاثهم إلى فرنسا وإنجلترا وإيطاليا، لتكتسب السياحة قيمة أسمى ذات بُعد معرفي، وليست مقتصرة على التجول والاستمتاع بقدر ما كانت وسيلة لإثبات الذات ومواجهة التحديات الحياتية وأداة لصناعة مستقبل الإنسان.
في القرن الثامن عشر بدأت العلوم والفنون بالاستقلال، واتجه المعماريّون إلى السياحة للاطلاع على فنون العمارة في أرجاء أوروبا، والأطباء تنقلوا بين البلدان لمشاهدة المستشفيات المتطورة وطرق العلاج الحديثة، والرسامون وجدوا في السياحة فرصة لتوسيع أفقهم ورسم معالم إنسانية جديدة، وكذا كان حال كل متخصص في مهنة أو فن، وتحولت الرحلات السياحيّة إلى مرحلة تهدف إلى إثراء التجربة البشريّة بواسطة المعاينة المباشرة والاحتكاك دون حائل.
ومنذ بداية القرن التاسع عشر حدث تطور ثوري في حركة السياحة بفضل انفتاح نظام النقل في أوروبا الوسطى، ونتج عنه مفهوم الرحلات السياحية القصيرة التي لا تتجاوز أيامًا معدودة، دعمتها خطوط النقل الحديدية والملاحة البخارية، وكانت سكة حديد سويسرا أول سكة في أوروبا وتحديدًا في عام 1823، وتلتها في هذه الخطوة إنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، ولم ينحصر دورها في تسهيل مهمة التنقل، وإنما أسهت في خفض تكلفته ما جعل شرائح اجتماعية واسعة قادرة على تحمل نفقات السياحة، إضافة إلى بروز شركات سياحية متخصصة تنظم عطلات جماعية جعلت من التكلفة السياحية متدنية وفي متناول معظم أفراد المجتمع.
وكان لنشوب الحربين العالميتين في القرن العشرين انعكاسها الإيجابي على قطاع السياحة رغم ما حملته من مآسٍ للشعوب. فضّل كثيرون من سكّان أوروبا الاتجاه نحو الأرياف للاستجمام والابتعاد عن أماكن الصراع المتركزة في المدن الكبرى، وزادت معدلات الإقبال على الرحلات السياحية بنسبة تتجاوز 400 بالمائة كوسيلة للتنفيس عن الآثار النفسية للحروب، وتغيّرت معها طريقة تفكير الشركات المعنية بالسياحة، ووجدت بأن الاهتمام بالطبقات المتوسطة والدنيا من شأنها أن تحقق عوائد ربحيّة أكبر لاتساع المنتمين لتلك الشريحة، وإمكانية توفير رحلات تتناسب مع قدراتهم المالية في ظل تطور وسائل النقل وانخفاض كلفتها.
تنامي أعداد الرحلات السياحيّة وحجم عائداتها المالية نبّهت الحكومات إلى إمكانية الاستفادة منها في تنمية الاقتصادات الوطنية، ومنذ ذلك الحين تحولت السياحة إلى مورد رئيس من موارد الدول الحديثة، وأسهمت في الاهتمام بالبنية التحتية وتطوير مدن الألعاب ودعم إنشاء المقاهي والمطاعم والفنادق، والاستفادة من وسيلة النقل الجوّي إلى جانب النقلين البري والبحري، واضطرت الشركات السياحية في ظل تزايد أعدادها وقّوة المنافسة فيما بينها إلى ابتكار أساليب تسويقية جديدة أنتجت عروضًا سياحية رخيصة الثمن، معها تحوّلت ذهنيّة المجتمعات نحو تصوراتها عن السياحة، وانتقلت من كونها ترفًا إلى ضرورة حياتيّة واحتياج أساسي لا يمكن التنازل عنه لضمان حياة سويّة ومتزنة.
وضع مراحل تطور السياحة في سياقها التاريخي من أهم عوامل الارتقاء بجودة القطاع وتحسين دوره في تنمية اقتصادنا الوطني، ومتى ما أدركنا آليّات تطورّه في الماضي يمكننا بناء استراتيجيّات تعيننا على توقع مآلاته المستقبلية في ضوء المستجدات التكنولوجيّة ومرحلة ما بعد العولمة، ويمكننا كذلك رسم خططنا لجعل السياحة في وطننا موردًا لا ينضب، وسبيلاً لواقع شعاره النماء والازدهار.