أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: المسلمون أجناس من الأمم: يشتركون في الزكاء (بالزاي) بالإسلام، ويختلفون في حدة العقل؛ فالعرب أثبت التاريخ أنهم ذوو حدة في العقل وسداد؛ لأن الإسلام نقلهم من طور الأمية من ناحية إتقان الكتابة، وفقدان العلم المدون إلى الكتابة والتأليف؛ فكتبوا القرآن والحديث خلال عصر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم مدة ثلاثين عاماً، وترقوا في تصنيف العلوم الخاصة بهم؛ وهي: حفظ الشريعة واللغة والتأصيل لهما؛ فلما كان القرن الثاني الهجري امتصوا ما عند الأمم من العلوم سوى الأدب الوثني فلم يرفعوا به رأسا.. وهضموا بعض تراث الأمم أكثر مما هضمه أهل التراث أنفسهم؛ ومن المعلوم أن الفارابي محسوب من التاريخ العربي والإسلامي؛ لأنه مشارك لهم في ثقافتهم، ممد لهم بما يحسنه من تراث الأمم الأخرى؛ وجرى الاصطلاح على أنه المعلم الأول؛ لفهمه وتفهيمه آثار (أرسطو).. وقصارى القول أن المسلمين أبدعوا في العلوم.
قال أبو عبدالرحمن: كان فلاح الأمة المحمدية منذ نزول سورتي (المدثر)، و(المزمل) قائما على صحة العقيدة، وسلامة السلوك؛ ومن ثم يكون إتقان العمل.. إلا أن الثقافة الدنيوية الترفيهية التي استهلكوا بها مواهبهم الجبارة في النظريات كالفلسفة، والمعمى، والألغاز، والكلام، وفلسفة العلوم النظرية.. ثم بعد ذلك مع الأسف تغزل بعضهم بالغلمان منذ النؤآاسي إلى صفي الدين الحلي إلى عصر ابن حجة الحموي؛ فبدأ الأوربيون حيث وقف العرب، وكان مثل العالم العربي كمثل أجير شاب قوي يحفر في صفاة بمعول جديد؛ فينجز في الوقت الطويل حفر شيىء قليل.. ومثل الأوربي كمثل شيخ هرم معه معول مثلم يحفر في أرض رخوة؛ فينجز في الوقت القليل أكثر مما أنجزه العربي في الوقت الطويل؛ لأن العربي ذلل الصعب، وأراح من ألف تجربة خاطئة؛ فاختصر الدرب، وكان همزة وصل، ثم حالت القوة العسكرية الناتجة عن العلم الرهيب دون طموح العربي والمسلم عموما؛ فكانت حاجاته الضرورية على سبيل المثال معتمدة على الطبيب العربي الماهر لحاجته إلى من يصنع له سماعته!!.. إذن سعادة الإنسان في دنياه وآخرته لا تكون إلا بسلوك سوي مستقيم راشد يصدر عن صحة الإدراك وزكائه؛ ولا تكون صحة الإدراك وسلامة السلوك إلا عن عقيدة صحيحة؛ ولهذا قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «فكل من استقرأ أحوال العالم وجد المسلمين أحد وأسد عقلا، وأنهم ينالون في المدة اليسيرة من حقائق العلوم والأعمال أضعاف ما يناله غيرهم من قرون وأجيال، وكذلك أهل السنة والحديث تجدهم كذلك متمتعين؛ وذلك لأن اعتقاد الحق الثابت يقـوي الإدراك ويصححه.. قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [سورة محمد/17].. وقال: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [سورة النساء/ 66-68] [؛ فهاهنا الوعد الصادق بالهداية والتثبيت]؛ وهذا يعلم تارة بموارد النزاع بينهم وبين غيرهم؛ فلا تجد مسألة خولفوا فيها إلا وقد تبين أن الحق معهم)).
قال أبو عبدالرحمن: هذا إذا لم يختلفوا فيما بينهم كاختلافهم في تفسير المقام المحمود بالإجلاس على العرش، وكاختلافهم في مرجع الضمير في قوله صلى الله عليه وسلم: (خلق آدم على صورته)؛ فإذا اختلفوا فأسعد الناس بالحق من محص الأدلة، وحقق النظر.. ثم قال ابن تيمية: ((تارة بإقرار مخالفيهم ورجوعهم إليهم دون رجوعهم إلى غيرهم)).
قال أبوعبدالرحمن: مما ذكره الإمام ابن تيمية رجوع الأشعري رحمه الله تعالى عن مذهب المعتزلة في آخر حياته إلى مذهب أهل السنة؛ وذلك في كتابه (الإنابة)، واشتغل بحفظ القرآن الكريم، وتأمل تفاسير العلماء، ورأى مسائل في مذهب أهل السنة والجماعة؛ فوافقهم أهل المذاهب الأخرى عليها؛ ويبرز هذا عندما يستدل أهل السنة والجماعة على فرق أهل القبلة بأن ذلك مذهب الصحابي فلان، أو الإمام فلان كأحمد وسفيان ومالك وغيرهم من أئمة الحديث أهل السنة والجماعة رحمهم الله، أو باستعارتهم طريقتهم في الاستدلال بالنصوص، والجمع بينها من غير تحريف ولا تأويل لا يصح.. ولا غرابة في ذلك؛ لأن دعوى الفرق المنتسبة إلى الإسلام طاعة الله واتباع شرعه؛ وأهل السنة والجماعة هم المرجـع في رواية شرع الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواية فهم السلف لدين ربهم من صحابة وتابعين ذوي تخصص في الشريعة رواية ودراية؛ فإذا أراد بعض المختلفين من الفرق إظهار ما ادعاه من طاعة الشرع: فلا سبيل له إلى الاستدلال بالشرع إلا من طريق أهله أهل السنة والجماعة، وإلى لقاء في السبت القادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.