القصيم - خاص بـ«الجزيرة»:
أكد فضيلة الشيخ الدكتور عبدالله بن محمد الطيار مفتي منطقة القصيم أن واقع الفتوى في وسائل الإعلام أصبحت وللأسف من مصادر الرزق لبعض تلك الوسائل، ومصدراً من مصادر الشهرة، ولتسويق لفكر ما. وتعجب الدكتور عبدالله الطيار في حواره مع «الجزيرة» من الجرأة العجيبة على مقام التحليل والتحريم من أشباه المفتين وأنصاف المتعلمين، مشيراً إلى الآثار السلبية لمسيرة الفتوى في الفضائيات التي أدت عبر المتغيرات الإعلامية الحديثة إلى إثارة الشكوك وخلخلة الثقة بفتاوى أهل العلم المعتبرين والثقات.
وتناول الحوار الذي ينشر على جزءين موضوعات متعددة، حيث مما تمت مناقشته مطالبة البعض بإلغاء عقوبة الإعدام، والفهم الخاطئ عن التجديد في الدين, وغير ذلمك.. وفيما يلي نص الحوار في جزئه الأول:
* كثرت الشكوى من الفتاوى العشوائية التي تبثها كثير من الفضائيات الدينية وغير الدينية.. من وجهة نظرك كأستاذ متخصص في الشريعة الإسلامية ومفتي: ما خطورة هذه الفتاوى غير المنضبطة على عقول المسلمين؟
- فقد كان من المفترض أن تأخذ الفتوى مكانها المرموق في ظل المتغيرات الإعلامية الحديثة غير أننا وبكل أسى وجدنا فوضى في الإفتاء عبر القنوات والفضائيات، والشبكات ووسائل الاتصالات، دون حسيبٍ أو رادع، وبلا رقيبٍ أو صادع؛ حيث غدا مقام الإفتاء العظيم كلأً مباحاً، وحمىً مستباحاً، وسبيلاً مطروقة لكل حافٍ ومنتعل، ومطيةً ذلولاً لكل يافعٍ ومكتهل، نبرأ إلى الله من ذلك ونبتهل، ولا ينافي ذلك الإنصاف بالقول، والاعتراف بأنه لا تخلو جملة ذلك من بعض الآثار الإيجابية والمنافع الدينية.
وما أكثر ما يرى الغيور من أشباه المفتين وأنصاف المتعلمين الذين يتجاسرون -وبجرأةٍ عجيبةٍ- على مقام التحليل والتحريم؛ فيجملون الفتيا دومًا دون تفصيل، ويرسلون القول غفلاً عن الدليل والتعليل، يتطفلون على حلائب الفتوى وهم ليسوا منها في عيرٍ ولا نفير، ويفتاتون على مقامات العلماء والمجتهدين وهم ليسوا منهم في قبيلٍ ولا دبير، يتقحمون دون وجلٍ عظيم المسائل، وهيهات أن يتورعوا عن البت في النوازل، مما لو عرض على عمر لجمع له أهل بدر.
ومن نظر إلى واقع الفتوى عبر وسائل الإعلام الحديثة يجد أن الكثير من هذه الفتاوى قد أصبحت وللأسف إما مصدراً من مصادر الرزق لبعض وسائل الإعلام وغيرها، وإما مصدراً من مصادر الشهرة، وإما مصدراً من مصادر التسويق لفكر ما.
إن الوسائل الإعلامية المعاصرة سلاح ذو حدين، حيث يمكن استعمالها في الخير وفي الشر، وفي التوعية الجيدة والدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، كما أنها يمكن استعمالها في التضليل، وتكريس الباطل والجهل والتخلف، ناهيك عن إحداث الفتن، والحيرة لدى الناس.
وبالتالي فإذا لم تضبط الفتاوى الفقهية، بل والبرامج الدينية في وسائل الإعلام بصورة عامة، وفي الفضائيات بصورة خاصة فإن إثمها يكون أكبر من نفعها، وآثارها السلبية تكون أعظم من فوائدها، ومفاسدها تصبح أكثر من مصالحها.
* وما الآثار السلبية للفتوى عبر الفضائيات في ظل المتغيرات الإعلامية؟
- يلحظ المتتبع لمسيرة الفتوى عبر الفضائيات أنها أفرزت جملة من النتائج والآثار ومن أهم هذه الآثار السلبية:
1- نشر الآراء الفقهية الشاذة والمهجورة، وذلك لكثرة الفضائيات وكثرة ما تبثه من مادة إعلامية؛ وتبعاً لذلك كثرة المتصدرين للفتوى على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم ومناهجهم في التعامل مع الوقائع والأسئلة الواردة إليهم.
2- أدت الفتوى عبر المتغيرات الإعلامية الحديثة إلى إثارة الشكوك وخلخلة الثقة بفتاوى أهل العلم المعتبرين والثقات؛ وذلك أن المستفتي والمستقبل للفتوى يسمع فتاوى مخالفة لما سمعه ممن أفتاه مفتية أو مفتي بلدته ومن هنا يحصل له نوع تشويش.
3- أدت عملية تعدد الفتاوى بتعدد قنوات البث واختلافها إلى نشر فكرة «التخير» بين الفتاوى لعوام الناس من حيث المعرفة الفقهية، فالمستقبل للفتوى صغيراً كان أو كبيراً، رجلاً أو امرأة يسمع فتاوى مختلفة، وسينظر -بنفسه- وبحسب ما يرتاح إليه، دون منهج أو استدلال، ثم يرجح ويختار الفتوى التي تناسبه، وأكثر من ذلك أيضاً أصبح الناس ينظرون إلى الفتوى نظرة استهتار، فإذا لم تعجبك فتوى فلان فهناك غيره له فتوى تناسبك.
4- أدت الفتوى الفضائية غير المنضبطة إلى الناس يضعون علماء الشرع والدعاة عموماً موضع (التندر والسخرية أحيانا) بسبب الفتاوى الصادرة عنهم, وأصبحت الفتاوى أحياناً حديث المجالس لا لإشاعة الحكم الشرعي بل لشغل الوقت وتناول العلماء والطعن فيهم من جهلة لا يدركون أبعاد ما يتكلمون به.
* البعض يطالب بإلغاء عقوبة الإعدام انطلاقاً من دوافع إنسانية.. كيف تنظرون إلى هذا المطلب خاصة أن الحق سبحانه يقول: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ ؟
- إن هؤلاء الطاعنين الذين يطالبون بإلغاء عقوبة القتل قد اعتبروا مصلحة المجرم، ونسوا مصلحة المجتمع، وأشفقوا على الجاني، وأهملوا الضحية، واستكثروا العقوبة، وغفلوا عن قسوة الجريمة.. ولو أنهم قرنوا العقوبة بالجريمة، ولاحظوا الاثنتين معاً، لخرجوا موقنين بالعدالة في العقوبات الشرعية، ومساواتها لجرائمها.
نقول لهؤلاء: إن الله تعالى أراد للناس أن يعيشوا آمنين مطمئنين، ولن يتيسر لهم ذلك إلا ببتر الفاسدين وقطع دابرهم. وهذه سنة الله في خلقه: فالغاية الكبرى من هذه العقوبات هو التخويف والردع وليست مكافأة على عمل مبرور، وإنما هي جزاء مقرر على ارتكاب جريمة، يقصد به الإيلام والردع: وإذا لم تكن العقوبة مؤلمة؛ فليس لتطبيقها أي أثر في الزجر والردع.
ونقول لهؤلاء الطاعنين لا شك أن الإنسان يتمنى ألا توجد في المجتمع جريمة أبداً، حتى لا توجد عقوبات أصلاً؛ بحيث يفهم كل فرد ما له فيقتصر عليه، وما عليه فيؤديه عن طواعية واختيار. ولكن هذا حلم لا يمكن أن يتحقق، ورغبة خيالية تصطدم بالواقع المعاش. فهناك نفوس جاهلة حمقاء لا تلتزم بما لها وما عليها، ونفوس شريرة ظالمة قد تأصّل فيها الإجرام والإفساد، وسعت للإضرار بالآخرين وبخسهم حقوقهم.
والحياة لا يمكن أن تستقيم وتنتظم إلا بالالتزام، واحترام حقوق الآخرين، وعدم المضارة بهم. فمن خرج عن هذا الالتزام، وسعى للإضرار بنفسه وبغيره، كان ردعه واجباً عقلاً وشرعاً، ولا ردع إلا بقسوة وإيلام.
* فهم البعض التجديد في الدين فهماً خاطئاً وأخذوا يبدلون في الأحكام ويفسرون النصوص الدينية على هواهم ويطوعونها لكي تتوافق مع فكرهم المعوج ويوجهون سهامهم المسمومة إلى الأئمة الأربعة والبخاري وغيرهم. ماذا تقولون لهؤلاء؟
- إن دعوى التجديد في الدين التي يدندن حولها أصحاب النوايا السيئة هي دعوى في الحقيقة إلى تفسير الثوابت والمحكمات بما يخرجها عن أصالتها وقطعيتها، ويقلب معانيها ومقاصدها إلى تفسير رغائبي مضطرب باضطراب آراء الناس وأفكارهم، وهذا مقصد باطل ولا شك، لا يتوقف عند إلغاء النص القرآني ودلالته فحسب، بل يتجاوز إلى إلغاء العقل الذي نعي به ونعقل ما نقرأ وما نسمع.
فلماذا يلجأ هؤلاء لمثل هذا التصرف بالقرآن الكريم أو السنة المطهرة! وهم يعلمون أن مقاصد القرآن الأساسية نصيَّة واضحة، لا تنقضها أوهام الاحتمالات، ولا تغيرها اجتهادات المغرضين. يقول الله -عزّ وجلّ: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ الرعد/ 37. وقال تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الزمر/ 27، 28.
وإن من أشدّ ما يحزننا أن يقع في أهل الإسلام مثل هؤلاء، حين يطعن من لا يؤبه له من العوام الجهلة وأهل البدعة في صروح الإسلام ورموزه من أئمة الدين ومشايخ أهل السنة والجماعة، وهم أهل العلم ورثة الأنبياء، الذين يعلِّمون الناس أمور دينهم، وأحكام شريعة ربهم، وهم المأوى والملاذ بعد الله تعالى في المهمات التي تعصف بالأمم، والفتن التي تجتاح القلوب.
لكننا نقول ومع ذلك إذا كان المقصود من الدعوى الواردة في السؤال مقام التجديد في تنزيل نصوص الوحي على المستجدات في زماننا، ومقام التحرك الحي بكل الجزئيات والتفاصيل التي تخدم مقاصد القرآن والسنة وثوابتهما، وتعظم شعائرهما، وشعائر الشرع عامة، وتحمل على الوقوف عند الأمر والنهي الشرعيين، مع مراعاة تغير الزمان والمكان والحال في مسائل الاجتهاد والنظر المصلحي، فيما لم يأت بشأنه نص خاص، وتفهم فلسفته ورسالته بما يعالج هموم الإنسان الحديث، ويمكنه من ترسيخ التشريعات التي هي مراد الله من عباده، فهذا مقصد صحيح كلنا نسعى إليه، ويقره جميع العلماء، ويجتهد في تحقيقه جميع المجتهدون في الأزمنة والعصور. وهذا لا يمكن حصوله إلا بضوابط.
* هل الإمكان أن تبينوا أهم تلك الضوابط؟
- من أهمها:
1- التزام معيار الإجماع، فما أجمع عليه العلماء يبقى ثابتاً لا يتغير ولا يتبدل، وما اختلف فيه العلماء يقبل النظر والتأمل، ويشكل المساحة المتاحة للتجديد.
2- التزام قواعد اللغة العربية، من جهة معاني المفردات، وفهم السياق العربي كما فهمه الأولون الذين نزل القرآن بلغتهم، واجتناب كل ما يخالف ضوابط اللغة والفهم العربي السليم.
3- النظر في جميع الأدلة الشرعية المقارنة للنص المفسر، وتفسير القرآن في ضوء القرآن نفسه، وفي ضوء السنة المطهرة وأقوال الصحابة والتابعين، فمصادر التشريع -كما يبينها الأصوليون- عديدة، لا بد للمفسر من الاستعانة بها كي ينتج عنده الفهم السليم، وكي ينضبط اجتهاده بالمنهج الصحيح، وإلا خرج اجتهاده عن القصد والعدل.
4- ومن أهم ضوابط هذا النوع أن يقوم به المؤهلون، الذين يجمعون بين العلم والتقوى، والذين يشهد لهم أهل العلم بالمعرفة والتخصصية وإتقان علوم الآلات وعلوم المقاصد، مع صلاح الدين، واستحضار الخوف من الله سبحانه. وبهذا ينسد الباب على المتسورين على حرمات القرآن الكريم، المقتحمين أبواب العلم بالجهل، المتشبعين بما لم يُعْطَوْا من علوم النقل والعقل.. والله أعلم.