تهاني فهد الخريجي
هل جربت يوماً أن تطرح سؤالاً حول فكرة معينة، ثم تطلب آراء الحاضرين حول الفكرة المطروحة؟!
في الغالب ستجد جميع الأفكار قد تمحورت حول ردود أول المتحدثين, ليجيب البقية أنهم يوافقونه أو ربما لا! وبذلك فإن الحديث قد ينحصر في تلك المحاور التي استأثرت بأول الردود, إلا أن تحاول أن تتعمد طرح سؤال خارج الدائرة يستحث محورًا آخر للنقاش حوله!
وهذا ما حاول ستيفن أن يجنبه مجموعتنا بطريقة ذكية وسهلة، عن طريق توزيع أوراق تحمل أسئلة معينة يريد أن يعرف رأي الجميع حولها, يوجد بها مكان مخصص لكتابة الإجابة الفردية قبل أن تختلط الأفكار ببعضها عند النقاش أو تتمحور في دائرة واحدة!
لفتة بسيطة من البروفيسور ستيفن إلن المشرف من كلية التربية على برنامج خبرات في جامعة بوستن, الولايات المتحدة الأمريكية, بعد أن قمنا بتدوين آرائنا قام بدوره بشرح الغاية من تلك الأوراق في تدوين الإجابات الفردية، وهو الأمر غير المستنكر على التعامل الأمريكي في شرح الهدف من كل خطوة, فالتفاصيل عندهم مهمة، واحترام الآخر في بيان الغاية من التصرف سلوك أساسي, ليس على نطاق التعليم فحسب, بل هو الأمر الذي يلفت نظرك حتى في المستشفيات والمراكز الطبية التي يبدأ فيها الطبيب أو حتى الممرض من شرح الخطوات التفصيلية البسيطة التي سيجريها معك بعد التعريف عن نفسه, ويفسر لك بلطف لماذا يجب أن يقوم بما يقوم به!
ستيفن بروفيسور عجوز بشعره الأبيض وحاجبيه التي سقطت على عينيه يشعرك بمعرفة عميقة عما يتحدث, ويمنحك الثقة لكل ما يقوله حول تخصصه في التربية, يخبرنا أنه قبل أكثر من ستين عاماً كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعاني مشكلة تسوس الأسنان في كثير من فئات المجتمع أطفالاً وبالغين, مما كلف الحكومة في معالجة تلك المشكلة طبياً الكثير, ففكرت ملياً حول حل تلك المشكلة الصحية التي تعم المجتمع، وحول الطريقة الأكثر فاعلية في إيجاد الحل الجذري لها؛ فلم يجدوا حلاً سوى الانطلاق من المدرسة. وبالفعل انطلقت توعية الطلاب والمتعلمين والأطفال عن طريق حملات طويلة الأمد لإنشاء جيل أسنانه أكثر نظافة وصحة وبالتالي الحصول على ألم أقل, ابتسامة أفضل, وصرف أقل للمال, ونجحت المدرسة اليوم بالوصول بأمريكا إلى نسبة عالية في معدل ابتسامة وصحة الفم والأسنان على مستوى العالم.
يخبرنا البروفيسور العجوز أنه قبل سنوات عديدة كانت هناك ثورة كبيرة لإعادة تشكيل العملية التعليمية في الولايات المتحدة الأمريكية, وبعد جملة من الدراسات والملاحظات والتجارب قام كل من عميد كلية التربية في كاليفورنيا وعميد كلية التربية في نيويورك بتأليف كتاب, كل منهما على حدة, والمصادفة العجيبة أن الكاتبين بدون اتفاق مسبق بينهما كانا قد خصصا الفصل الثاني من كتابيهما بالحديث حول عقبة كان عنوانها حرفياً: (نريد كل شيء). أشار ستيفن لاحقاً أن المشكلات التي يواجهها المجتمع ليس إلا من طريقين للتعامل معها: هما القانون أو المدرسة, وهذا بطبيعة الحال يقودنا إلى العديد من المجالات التي يفترض أن تناقشها المدرسة، وتضع أهدافها حول إيجاد حلول حولها, وهو الأمر الذي يستحيل أن تحققه المدرسة وحدها لا سيما في العصر الذي تتراكم فيه مثل الجيولوجيا طبقات الأهداف المنتظر منها تحقيقها لتتكون لدينا صخرة عريضة لا يمكن اختراقها بسهولة, كمشاكل الصحة أو الإدمان والمخدرات, البعد عن التدخين, تعليم العبادة، ناهيك عن المنهج الدراسي نفسه كتعليم الرياضيات أو الاستفادة من العلوم!
فالمدرسة الجيدة يجب أن تركز على أهداف كبيرة، محددة، تعمل على تحقيقها طوال العام. يفيد ستيف في تجاوز عقبة (نريد كل شيء)؛ إن التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية ينظم المنهج الدراسي للمواد على 40 وحدة باعتبار أن أسابيع الدراسة من 38 - 40 أسبوعًا, من أجل أن يتم التركيز على وحدة واحدة كل أسبوع تحمل هدفا محدداً عريضاً. إن العمل على تحديد أكثر الأهداف أهمية في منهج جيد, مع وجود معلم جيد هو ما يمكن أن يضمن لنا تعليمًا جيدًا, وما عدا ذلك ما هو إلا مسابقة للزمن في محاولة عرض معلومات كثيرة في وقت محدود لا يحقق فهمًا جيدًا لجميع الطلاب, ويحرمهم من متعة الاستكشاف والبحث في الوقت ذاته. وهو ما وصفه بعض التربويين في السابق: (cover the material) في محاولة تغطية المنهج، والأفضل منه اليوم هو الوصف القائم على عكس الفكرة في (discover the material) ومحاولة كشف ذلك الغطاء عن طريق عرض المواضيع والأفكار والمشكلات ذات العلاقة على العقلية الناشئة من الطلاب لتنطلق, وتبدع, وتفكر!
(قد يحدث التغيير, لكن التقدم لن يحدث ما لم نصنعه نحن). كررها ستيف وهو يفرك دقنه بأطراف أصابعه, مركزاً في حديثه على التعليم المؤثر الذي ينطلق من معرفة غير واضحة, أو مشكلة تحتاج إلى حل, وربما أحجية ناقصة تستحث تفكير المتعلمين, وتجذب انتباههم, وتثير دافعيتهم. وهو الأمر القائم على تخطيط جيد في كل مرة، تخطيطاً يهتم بالفهم الذي ينغمس فيه الطالب وقتاً ليس بالقصير ينتهي به بتحقيق مهارات عليا, وتدريب على أخرى، فيحتفظ بأثره فترة أطول يتسنى له معها استحضار ما تعلمه في حل مشكلاته، وتطبيقه على أرض الواقع، وفي حال تم سؤاله بعد أربع سنوات دراسية عن الذي استفاده في تلك السنوات التي مضت؛ تكون تلك المعرفة والمهارات المتعلقة بها أحدها!
نعم -أعادها ستيفن ألن أكثر من مرة- إن التعليم الجيد والقائم على منهج جيد, معلم متدرب, وتخطيط فعال قد يكون مكلفاً كثيراً, لكن لا يوجد شيء أكثر كلفة من التعليم الجيد سوى: تعليم سيء!