د.علي القرني
عندما يحار كاتب في كتابة أي موضوع أو يتوقف شاعر عن كتابة قصيدة فماذا يعني ذلك؟ هل هي مرحلة إفلاس أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟ عندما يتوقف كاتب ولا يستطيع أن يكتب مقالاً أو لم يعد الشاعر ينبض داخله ويخرج قصيدة هل يعني أن أطر الموضوعات تلاشت؟ وهل نبض التجارب توقف؟
لا يوجد إفلاس في الكتابة في نظري، فالموضوعات تتجدد يوماً بعد يوم، إلا من وضع نفسه في زاوية ضيقة جداً ولا يستطيع الخروج منها، وعدا ذلك فالفضاء واسع والموضوعات تتجدد وقنوات النشر تتوسع إلى ما لا نهاية. ولكن الحقيقة التي أريد أن أبحث فيها هنا هي ماذا يحدث في عقل الكاتب قبل أن يكتب؟ وماذا يدور في قلب الشاعر قبل أن يبني قصيدته؟
الكاتب هو مثل الشاعر، أو لنقل الشاعر هو مثل الكاتب ولهذا فأنا أتحدث عن ثنائية إبداعية تتواءم مع بعضها البعض في معايشة مع المجتمع والناس. وصحيح أن الشاعر في كثير من الأحوال ينزف نزفاً شخصياً، ولكنه في أحيان أخرى ينزف نزفاً مجتمعياً. وكلاهما يحمل هماً كبيراً وطنياً وقومياً وأممياً، إضافة إلى الهم الشخصي. ولهذا فالموضوعات لا تنتهي، والمعايشات لا تتوقف، ولكن يحدث أحياناً أن يتوقف الكاتب أو يتوقف الشاعر عن الكتابة بسبب أن السياق الزمني والمكاني لا يساعد على الكتابة، وهذا ما يجعل الكاتب يكتب ولا ينشر، والشاعر يكتب قصيدته ولا يعلنها، فتبقى داخله أسيرة هموم كبرى لا يستطيع البوح بها.
ونعلم أن هناك حراس بوابات إعلامية منتثرون في كثير من قنوات البث والنشر، ولكن نتناسى دائماً أن حارس البوابة الأولى هو الكاتب نفسه، وهو الشاعر نفسه، فهو أحياناً الذي يقف أمام كتاباته ويقف أمام قصائده الشعرية. وعندما يقف الشخص ضد نفسه، ويحاول أن يطوّعها لخيارات كتابية جديدة أو يسعى إلى ترويض قلمه وفكره وعقله لموضوعات لا تعكسه أحياناً، فهذه قمة التموضع الخاطئ في المجتمع.
فعندما يتوقف الكاتب - كاتباً أو شاعراً - فهذا يعني أن نبضه توقف، وأن همومه فاضت، وأن حياته انعكست رأساً على عقب، أو على الأقل هكذا تبدو له الحياة العامة في الشاشة الكبيرة التي ينظر من خلالها إلى الناس والمجتمع والحياة. وعندما نخسر كاتباً أو نخسر شاعراً فهذا يعني أن قنوات الاحتواء المجتمعية عجزت تماماً أن تستوعب مثل هؤلاء الأشخاص. ومعناه أيضاً أن السياجات المحيطة بالكاتب أو الشاعر في الهموم العامة تزداد أو ربما يراها هؤلاء أنها تزداد حولهم.
ونحن هنا لا نشير إلى الحالة الرمزية التي قد يوظّفها الكاتب أو الشاعر، فيكتب الشاعر في الوطن وهو يقصد محبوبته أو يكتب في محبوبته وهو يقصد الوطن، أو الكاتب الذي يكتب في موضوع وهو يقصد موضوعاً آخر، فهذه الحالات موجودة في الساحة الإبداعية. وهذه تحايلات متعمدة من الكتاب، ولكن تحدث في زمن الحصار الفكري فقط، ونحن مع شبكات التواصل الاجتماعي والإنترنت والفضاء الكبير الذي نعيشه لم تعد مثل هذه التحايلات مستوجبة في هذا الزمن. وما نقصده هنا في هذا المقال هو تحديداً القرار الاختياري للتوقف عن الكتابة.
إن ممارسة البوح العام كتابياً هي ممارسة لنا جميعاً للتعبير عن رأي أو موقف أو حضور في شأن عام من الشؤون العامة، وهي ممارسة تدعم الشأن العام وتساهم في بناء منظومته الفكرية وقواعده الحوارية، والكتاب والشعراء هم عناصر محورية في دعم الفضاء العام من النقاش في المجتمع.