عبدالعزيز السماري
ما يجري في العراق من حراك ثقافي سياسي جدير بالمتابعة، فالعراق كان مهد الحضارة وملتقى الثقافات، فقد كانت بغداد عاصمة العالم العلمية والسياسية في أوج الحضارة العربية، والحراك الثقافي الشعبي والنخبوي الحالي ضد الطائفية الكريهة سيكون بمنزلة النور الذي سيبدد ظلام الطائفية وأمراض الماضي.
العراق بلاد العلماء والمثقفين وموطن الحضارات لا يمكن أن تظل تحت سيطرة فئات متطرفة لا ترى في الدين إلا الكراهية والبغضاء والدماء، العراق بلد القانون، فأول قانون في العالم صدر في العراق، وأول انتصار للأمة العربية ضد المعتدين الفرس حدث في العراق، ولهذه الأسباب ولأسباب كثيرة لا يمكن أن يموت العراق تحت صيحات لطم الصدور ووسط غبار رماد الانتحاريين..
كان العراق ضحية مباشرة لخزعبلات الماضي وكراهيته ممثلة في أساطير الشيعة وتخلف السنة، التي تلاعب بأطيافها بعض السياسيين في مراحل سابقة، وأسهم التدخل الإيراني الكهنوتي في إشعالها إلى حد الهلاك والدمار، ولكن من بين مخلفات الدمار ولهيب الحرائق بدأ نور مشرق يخرج في العراق، مصدره تاريخ العراق وحضاراته المشرقة، وهو ما يعني بدء مرحلة أفول احتفالات الحزن وانفجارات الكراهية..
عندما ننظر بعين الناقد المثقف إلى الماضي الإسلامي في عصوره الوسطى، وكيف تحولت أحداث سياسية إلى أديان وطوائف سندرك كمية السذاجة والسطحية التي نعيش فيها، إذ لا يمكن أن ينزل دين من الله عزّ وجلّ ينصر فيه بيتاً على آخر، أو فرع قبيلة على أخرى، أو يختزل الحكم في قبيلة على أخرى، ولا يمكن لدين يقوم على نهي تقديس الأولياء، ثم ننصب لهم المعابد، وندور حولها ملطخين بالدماء، ولا يمكن لدين ينهى عن قتل النفس التي حرم الله، ثم يفجر امرئ نفسه في مسجد أو سوق أو مستشفى..
شيئاً ما حدث، وجعل الحضارة العربية الإسلامية تنتحر في وضح النهار، ولو شاء لي أن اختار عاملاً واحداً لهذا التدهور سأختار السياسة قاتلها الله، فالحاكم يملك الكثير من القدرة على تغيير قناعات البشر، فالاستبداد يجعل منه أعمى عندما يُقدم مصالحه على مصالح المجتمع، ويجعل نبراساً يُهتدى به إذا أصلح العقول، ولهذا اختار المأمون أن ينتصر للعقل، وأن يحارب التطرف الديني مبكراً، لكن المقتدر أعاد بقرار للتطرف الديني مكانته..
نجح إسماعيل الصفوي في فرض التطرف الشيعي بالدم والإكراه على فارس، وأعاد صدام قبل رحيله الخطاب الطائفي ليحكم العراق بعد رحيله، ونجح أبورقيبة في تجفيف منابع التطرف من القراءات المنحازة في الدين، وفرضت إيران من خلال عملائها أن يعيش العراق تحت ظلها، ثم نقلت عدوى الكراهية إلى أبعد من ذلك ومن خلال السلاح والمال..
خروج العراق من هذه الحقبة يعني الكثير للدول المجاورة، وبعودته ستشفى بعض الجروح العميقة بين الأشقاء، وسيعود المجتمع الذي كان مثالاً نموذجياً على ثقافة التعايش إلى مكانته الأولى، وربما تمهد الانتخابات الجديدة لطريق اللا عودة من الأزمة الطائفية البغيضة، والتي كان العراق ومازال ميدانها وضحيتها الأولى، بحكم قربه من إيران المشلولة بالعقل الطائفي المريض.
الإصلاح الثقافي إستراتيجية غائبة في الوعي العربي المعاصر، وهو ما يعني أن تتفق الدول العربية في اجتماعاتها الدورية أن يتم إصلاح المناهج الدراسية، وذلك بتنقيتها من الخطاب الطائفي، ومن شحن الأطفال بكراهية الآخر الذي يعيش في الحي المجاور، لكن الدور الأهم يأتي على علماء الدين وعلى المتنورين منهم، ومن مختلف الطوائف، وهو ما يعني إعادة كتابة المناهج الدينية لتكون منبراً خالصاً لوجه الله..
سيظل الدواء الشافي في أن تتطهر السياسة من الأحزاب السياسية ومن حق تمثيل أبناء الطوائف والقبائل، وأن تكون مدنية خالصة، ولا تستمد قوتها من أمراض الماضي وانقساماته، والعراق في الوقت الحاضر يمثل أكثر حالة مرضية بسبب هيمنة القراءات الطائفية للدين على خطابه السياسي، وشفائه وخروجه من خزعبلات الماضي يفتح الأبواب للآخرين في اقتفاء أثره، وأقول ذلك لأن العراق غني بمثقفيه ورموزه ورائد بتاريخه العظيم.. فهو كان ومازال مهد الحضارات..