م. خالد إبراهيم الحجي
أثبتت الوقائع التاريخية أن الحروب الباردة كانت البديل المناسب لامتصاص التوترات ومنع وقوع المواجهات العسكرية والحروب النووية، والمناوشات والتراشقات الإعلامية في الحروب الباردة أقل تكلفة من المواجهات العسكرية المباشرة. ولفهمها جيداً لابد من العودة إلى حقبة الحروب الباردة. أولها الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي: في أواخر القرن الماضي، إذ قامت وسائل الإعلام السوفيتية بانتقاد السياسات الأمريكية ضد الاتحاد السوفيتي.. وردت عليها أمريكا بتأسيس إذاعة صوت أمريكا «ويس أوف أمريكا» عام 1947م التي بثت إلى المواطنين السوفييت البرامج الدعائية التي تقدح في الشيوعية وتظهر عيوبها وأضرارها على الفرد والمجتمع، وتمدح الرأسمالية وتوضح منافعها وتبرز فوائدها. ويرى أكثر المحللين السياسيين أن الحرب الباردة كانت سبباً إلى حدٍ كبيرٍ في التغيرات الاجتماعية، والضغوط السياسية، والاضطرابات الاقتصادية التي أدت في النهاية إلى تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991م، وزوال الحزب الشيوعي السوفيتي وتشكيل رابطة الدول المستقلة، وتعد روسيا العضو الرئيس فيها التي ورثت معظم قوات الاتحاد السوفيتي المسلحة وأصبحت دولة عالمية معتبرة.
وثاني الحروب الباردة التي بين الهند وباكستان: عندما ادعت الهند أن الجيش الباكستاني يسهل للقبائل التسلل إلى كشمير لإقامة وطن مستقل للمسلمين. ونفت باكستان التهمة السابقة بأنها تقدم الدعم الدبلوماسي والسياسي للقبائل في كشمير لتحقيق «تقرير المصير». واتهمت كل دولة بضلوع الدولة الأخرى في التفجيرات التي حدثت فيهما لزعزعة الأمن والاستقرار، ووصلت حالة التوتر بينهما إلى حد التعبئة القصوى وإعلان الحرب إلى أن تمت الهدنة بينهما في عام 2003م في إقليم كشمير، على خط المراقبة الذي يفصل بين الجزءين المتنازع عليهما.
وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي وظهور نظام القطب الواحد الذي مثلته أمريكا، انتهت حقبة الحروب الباردة وظهرت حقبة الحروب السياسية والإعلامية واستخدام العقوبات الاقتصادية. والحروب السياسية التي تشتمل على عقوبات اقتصادية تهدف إلى إجبار بعض الدول المارقة وإخضاعها لتحقيق مطالب المجتمع الدولي بمنع الاستيراد منها أو التصدير إليها. وقد اتسع نطاقها في أواخر القرن العشرين بعد أن كانت من قبل أمريكا فقط؛ فأصبحت العقوبات الاقتصادية متعددة الأطراف وشملت الاتحاد الأوروبي ثم توسعت ووصلت إلى الأمم المتحدة، مثل: قرارات مجلس الأمن الدولي بالإجماع على إيران عام 2006م وعلى كوريا الشمالية عام 2017م بتطبيق العقوبات الاقتصادية عليهما بشأن برامجهم النووية والصاروخية.
وفي عهد الرئيس الأمريكي أوباما اتصفت العلاقة بين أمريكا وكوريا الشمالية بالتوتر والتهديد المستمر من قبل أمريكا ضد كوريا الشمالية، وزاد التوتر في بداية ولاية ترامب، بعد أن استمر رئيس كوريا الشمالية «كيم جون أون» في تطوير الصواريخ النووية حتى أصبحت قادرة على الوصول إلى الأراضي الأمريكية؛ فوصل التهديد الأمريكي إلى توجيه ضربة عسكرية أمريكية تقضي عليه، فقبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع أمريكا.
والحروب السياسية والحروب الإعلامية متلازمة: مثل المناوشات الإعلامية بين كل من إيران وإسرائيل عندما أعلنت إيران بأنها ستمحو إسرائيل من خريطة الشرق الأوسط. كما أعلنت إسرائيل بأنها ستشن حملة عسكرية مشتركة مع أمريكا لتوجيه ضربة بالصواريخ البالستية إلى إيران لتدمير منشآتها النووية. وتوالت الأحداث السياسية والإعلامية بعد توقيع الاتفاق الإيراني النووي مع الدول (5+1) في 2 إبريل 2015م.
واليوم العالم ينتظر ما تتمخض عنه الأحداث في المستقبل بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي ترامب انسحاب أمريكا من الاتفاق الإيراني النووي لأنه الأسوء في تاريخ أمريكا على حد تعبيره، وفي مناسبات عديدة متفرقة قال في هذا السياق إن الرئيس أوباما لم يستفد من القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تمتلكها أمريكا لتشديد العقوبات الاقتصادية على إيران وإنهاء إستراتيجيتها التوسعية، ووقف برنامجها لتطوير الصواريخ البالستية التي تهدد بها الدول المجاورة، والتجميد الدائم للبرنامج النووي الإيراني وليس فقط لمدة عشر سنوات.
الخلاصة:
إن الحروب السياسية والاقتصادية المدعومة بالقوة العسكرية يجب أن تكون مؤثرة وفعالة لتجبر الدول المارقة للجلوس إلى طاولة المفاوضات وتلبية مطالب الدول القوية.