د. محمد عبدالله العوين
- أهوتك إيه؟ مزبوطة والا سكر زيادة؟
- كان هذا هو السؤال الأول بعد التحية المصحوبة بقهقهة عالية حين قلت لنجيب محفوظ: ما هذا الحاجب الذي على باب مكتبك أيها الأستاذ؟ ما كنت أظن الأدباء والكتاب يحجبون أحدا عن مقابلتهم؟
لم يكن ذلك الرجل الستيني الطيب المهذب الذي يجلس على كرسي خشبي عند باب مكتبه حاجبا؛ بل كان مسؤولا خاصا عن خدمته؛ ينظف مكتبه، يستقبل زائريه، يجهز القهوة للأستاذ ولضيوفه.
حين توقفت سيارة الأجرة التي أقلتني من فندق «أمية» المتواضع (كانت أجرة الغرفة آنذاك بستة عشر جنيها) قال لي السائق: لا يدخل الأهرام إلا البهوات، نفسي أشوف نجيب محفوظ ومحمد حسنين هيكل وأنيس منصور، دول ناس عظمة والله.
شكرت السائق على لطفه، ونقدته مبلغا جيدا من المال مقابل تسليته لي في الطريق وقصصه التي لم يرد لها أن تنتهي إلا بتوقفنا عند باب الأهرام، كان يعتقد أن جميع كتاب مصر من النجوم تجمعهم الأهرام، وهو واحد من ملايين يرون الأهرام هي الجريدة الرسمية.
كانت الأوضاع الأمنية في مصر في ذلك الوقت (1979م) مريحة والجو الأمني هادئ هدوءاً يسبق العاصفة التي بدأت باغتيال السادات من جماعة التكفير والهجرة، وعلى أثرها شنت السلطات حملة تطهير للجماعات المتطرفة قابلها المتطرفون بتفجيرات واغتيالات استمرت أكثر من عقد من الزمن.
وعلى العموم كانت الأوضاع في العالم العربي في حالة أشبه ما تكون بالاستعداد للدخول في حقبة سياسية جديدة؛ إذ لم تتفجر الثورة على الشاه بعد ويصل الخميني إلى السلطة، ولم تحدث بعد فتنة الحرم التي تزعمها الضال «جهيمان» لقد كان النصف الثاني من عام 1979م فاصلا بين مرحلتين سياسيتين وفكريتين خطيرتين في العالم العربي، فمع قرب نهايات العام الميلادي وبداية العام الهجري طويت صفحة وافتتحت صفحات جديدة ما زلنا نعيش آثارها الدامية بما خلفته ثورة الخميني المشؤومة وما أنتجه الفكر الإرهابي من تدمير للعقول وتعطيل للتنمية وقتل للأنفس وإفساد في الأرض. ما دعاني إلى هذا البسط في الحديث عن الأوضاع الأمنية في مصر والعالم العربي أنني حين دخلت إلى الاستقبال في الصحيفة وأخبرتهم بموعدي مع الأستاذ لم أمر بحواجز ولا بنقطة تفتيش ولا بتحسس بجهاز إلكتروني ولا بأسئلة متتالية؛ بل هش وبش في وجهي الموظف ورافقني إلى الدور الرابع حيث مكتب الأستاذ. شعرت بأن من سأقابله ليس كاتبا فحسب؛ بل هو رئيس التحرير! هو كاتب أسبوعي؛ لكن الأهرام تعده أحد أركانها ونجمًا لامعًا من نجومها، وتعامله ماديا ومعنويا بالمنزلة التي يستحقها. ودار المسجل، والأستاذ لا يتوقف، وبين سؤال وسؤال نكتة طائرة وقهقهة عذبة، كان بروحه الحلوة محفورا في كل شخصية من رواياته؛ من خان الخليلي إلى الثلاثية وزقاق المدق وثرثرة فوق النيل وميرامار وخمارة القط الأسود وليس انتهاء بالحرافيش. يتبع