د.فوزية أبو خالد
هناك من يقول عن نفسه هذه الأيام صادقاً وهو يشاهد محاولة أمريكا البائسة في المضي خطوة إضافية خطيرة لشرعنة جريمة الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين بنقل السفارة الأمريكية للقدس: «أنا من جيل فتح عيونه على أن أرض فلسطين عربية وإن سرقت بقوة السلاح وجبروت الجرم وبطش الباطل, وأن عاصمتها القدس وإن هوّدت وطمست معالمها المقدسة وقتل على أرض مسجدها الأقصى المصلون وهم سجود ونقل رئيس أمريكا دونالد ترامب سفارته إليها, وأن الشعب العربي الفلسطيني وإن طرد وشرّد من أرضه فهو صاحب الحق التاريخي والجغرافي والأخلاقي والحضاري في هذه الأرض, وأنا أيضاً من جيل تفتحت حواسه وربى وجدانه على أغاني وأناشيد وقصائد.. جاوز الظالمون المدى... وسجّل أنا عربي... لمحمود درويش وجبل المحامل لأحمد دحبور.. ورسومات ناجي العلي وغضب حنظلة.. وبطولات أطفال الحجارة. ولهذا فأنا وجيلي لا نستطيع القبول بغزل التطبيع ولا بجريمة ارتكابه البواح ولا بمصافحة أيدي المحتلين الملوّثة بدم ضحايا الاحتلال وأبطاله. وأرفض كل الرفض الاحتلال وأقول لأمريكا إن شرعنة الباطل لا تحيله إلى حق».
غير أن هذا القول أعلاه على شفافيته وصدقه قد لا يخلو من نرجسية جيل على جيل. فرفض الظلم ورفض سرقة الأوطان ورفض العدوان ليس حكراً على جيل بعينه أو على الجيل الذي كان شاهداً على تلك الفظاعات وحده, بل إن ذلك الرفض من حق كل الأجيال التي تتمتع بنعمة العقل والضمير والأخلاق سواء شهدت الحدث الدامي بداية وقوعه أو لم تشهده, فما بالك بعدوان لم ينقطع يوماً خلال سبعين عاماً من عمر الاحتلال الإسرائيلي الاستطياني لأرض فلسطين ولم يتوقف فيه تقتيل الأطفال والنساء ليس في حجر مظلمة، بل ببث الجريمة حيَّة على الهواء كلما أراد أحد أن ينسى أو حاول جرح التماثل لشفاء ما. كما أن القول الذي وضعته بين قوسين أعلاه على شفافيته قد يوحي بتسامح لا مكان له في قضايا الضمير, وكأن للأجيال التي لم تعش تجربة الجيل الذي ولد إبان التأسيس الوحشي لدولة الاحتلال على أرض فلسطين في حل من الالتزام الأدبي والأخلاقي على الأقل برفض مصافحة اليد القاتلة بتعبير الشاعر أمل دنقل في قصيدته التي لا تقدم ولا تشيخ مبادئها... «لا تصالح...».
والحقيقة أن تقادم العهد على جريمة الاحتلال الصهيوني الإسرائيلي لأرض عربية هي فلسطين وخاصة مع استمرار دولة العدوان المستدام في استباحة الأرض والشعب لا يعفي الأجيال العربية الشابة من رؤية الحق حقاً والباطل باطلاً. فإذا كان شاب أمريكي مثل جاريد كوشنر يستطيع أن يدافع عن باطل لم يحضر وقائع تأسيسيه البشعة ولم يجرب وحشية اقتلاعه لشعب كامل من أرضه, كما يستطيع أن يستحضر ذكرى جديه الناجين من هولكوست لم يرتكبه الشعب العربي أو الشعب الفلسطيني، بل ارتكبته النازية ليقف منتشياً في حفل شرعنة جريمة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وإعادة السطو العلني على مدينة القدس بنقل سفارة بلاده إليها, فإن من باب أولى أن يكون لأجيالنا من الشباب الحق وعليها الواجب في الوقوف موقف شرف من هذه القضية الوطنية الإنسانية دون أن نرضى لها أو ترضى لنفسها هوان التنازل عنه أو التفريط فيه. فالأجيال اللاحقة وإن لم تفتح عيونها على الصراع العربي الإسرائيلي ولا على فظائع نكبة الشعب الفلسطيني ومذابح دير ياسين وكفر قاسم وكل مدينة وقرية من قرى فلسطين ولا على حرقة العدوان الإسرائيلي وحروبه على جوار فلسطين العربي من حرب العدوان الثلاثي 1956م إلى حرب حزيران 1967م ومن ضرب المفاعل العراقي إلى الاجتياحات الإسرائيلية المتكرّرة لبيروت ومذابح صبرا وشاتيلا بلبنان, وكذلك فإنها وإن فتحت عيونها على جيوب عربية وفلسطينية تهاونت ولم تخجل من ذل التنازل عن حقوق مبدئية, فإن لا الموقف الأول يرفع القلم عنها ولا الموقف الثاني يعفيها من الوعي والإصرار على نصيبها الوافر من الكرامة ومن الوطنية ومن المقاومة ولو بكلمة رفض لهذا العدوان المفتوح البواح لسبعين عاماً.
ويبقى أنه لو أن صور هذا الفعل الإجرامي التي نقلتها الشاشات طوال يوم الاثنين 14 مايو 2018م في شرعنة وتمجيد السطو على أرض مقدسة وسحق وقتل سكانها علناً أمام الكاميرات لم تستطع أن تعمي أحرار العالم من مشاهدة المقاومة الفلسطينية الشرسة أمام فوهات البنادق في الجانب المشتعل من المشهد, فإن هذا يعني أنهم فشلوا في قتل سر عظيم من أسرار قلب السحر على الساحر وإن بعد حين وهو سر الأمل. ويبقى أيضاً أنه ولو أن هذه الكلمات الظالمة المظلمة الوقحة في افتراءاتها وكذبها التي ألقيت في الاحتفاء بتجديد جريمة الاحتلال بنقل السفارة الأمريكية للقدس, جعلت دم كل حر يغلي في عروقه, فإن هذا بلا ريب يعني مرة أخرى أن فداحة الاحتلال ومناصرته الباطلة لم تستطع أن تلمس ريشة من أجنحة الأمل الذي بفقدانه فقط تهزم الأمم.
قبل نصف قرن لم يكن العالم يستطيع سماع ولا مشاهدة إلا ما يسمح به أصحاب الهيمنة ولذا لم تكن هناك إلا رواية واحدة هي رواية الجانب المسيطر وإن ظلم أما اليوم فلن يستطيع أحد من الأحرار من الأجيال الشابة كما من الأجيال المخضرمة أن يقول لم أسمع أولم أر, فرواية الظالم بثتها القنوات الإعلامية جنباً إلى جنب مع رواية المقاومة. فلم يعد ممكننا لوم الضحية بتعبير إدوارد سعيد ولم يعد ممكناً إعفاء الجلاَّد من جريمته ولذا فلم تكن من المفارقة أن يقول رئيس وزراء العدو الإسرائيلي في تلك اللحظة «حفلنا هذا لم يكن ليكون لو لم تكن تسورنا البنادق».
وهذا ببساطة يعني أن الباطل لن يطول وإن طال مئة عام أخرى فلا يضيع حق ما دام هناك محتل يعترف بخوفه من جريرة جريمته حتى وهو في ذروة تجديد المجد لجريمته. وبالمثل فإن الحق لن يضيع طالما له طلاب وأبطال يعيشون جيلاً بعد جيل على ماء اسمه المقاومة وعلى هواء اسمه فلسطين وعاصمتها القدس الشريف وعلى خبز اسمه الحرية وكامل الاستعداد لدفع أثمانها.