د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
أثار دونالد ترمب جدلاً كبيرًا قبل وبعد إعلانه الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران وذلك لعدة أسباب. الأول منها هو أن الانسحاب من الاتفاقات الموقعة لا يحدث إلا نادرًا وفي حالات محدودة تتعلق في معظم الأحيان بعدم التزام أحد الأطراف ببنود الاتفاق، أو أن الاتفاق وقع قسرًا وفي حالة ضعف لأحد الأطراف تبعه تغير في موازين القوى. والواقع أن صمود الاتفاقات يعتمد على مدى وضوح ودقة صياغة الاتفاق وقناعة الأطراف المعنية بأن لها مصلحة بالالتزام به. وبعض هذه الأمور لا تنطبق على الاتفاق النووي الإيراني بسبب تعجل إدارة أوباما بتوقيعه كإنجاز يغطي فشل سياساتها في المنطقة وخاصة في سوريا والعراق، وبالرغم من عدم قناعة الحلفاء التقليدين لأمريكا بالاتفاق. حيث بالغت إدارة أوباما بافتراض حسن النية في الطرف الإيراني وهي تعلم أن تاريخ حكم الملالي في إيران ينطق بغير ذلك. الأوربيون بدورهم كانت نظرتهم للاتفاق اقتصادية بحتة وتسابقوا لالتقاط الجزر الذي قدمته الحكومة الإيرانية لهم على شكل عقود ومشاريع. الصينيون كانت عينهم على الطاقة الرخيصة التي ستدخل السوق برفع الحظر على بيع النفط الإيراني. أما الروس كالعادة فقد مارسوا هوايتهم بالاصطياد في الماء العكر. ويمكن القول إن لكل طرف في هذا الاتفاق أهدافًا مختلفة عن الآخر.
الاتفاق لم يكن حقيقة اتفاقًا بقدر ما هو توافق لمصالح مختلفة لأطراف عدة. ومثل هذه التوافقات عادة لا تصمد. فإيران وجدت ثغرة في الاتفاق تتيح لها الاستمرار في إنتاج الصواريخ وتطويرها ليصل نطاقها عدة دول منها الدول الحليفة لأمريكا في المنطقة كالسعودية وإسرائيل. فالصواريخ الإيرانية قد طالت أراضي إسرائيل عبر لبنان في 2006م، وتطلق اليوم على السعودية من اليمن. فهاتان الدولتان هما المتضررتان الكبريتان من هذا الاتفاق الهزيل. ويمكن القول إن إيران باستمرارها بإطلاق الصورايخ تمارس تجارب فعلية لهذه الصورايخ لتتمكن من تطويرها من ناحية الحمولة، والدقة والمدى. ولذا فلا غرابة أن يكون هناك توافق مصالح بين الدولتين في إنهاء الاتفاق حتى بدون تنسيق مباشر بينهما. وإسرائيل مارست لعبة الحياد المؤقت في سوريا لتتيح لإيران بتدمير سوريا، ولتنهكها ماديًا وعسكريًا. ولكنها لن تسمح لها بالاستقرار العسكري على حدودها.
انسحاب ترمب من الاتفاق جاء نتيجة لظهور تناقضات بين التوافقات السابقة، فإدارته لم تعد ملزمة بما وقعته على عجل الإدارة السابقة. والدول الأوربية أحست أن الصواريخ الإيرانية يمكن أن تطالها، ولذلك أعلنت عن التحفظ على إنتاجها فقط، وطالبت بإعادة التفاوض حول الاتفاق وليس بإلغائه. أما الحزب الجمهوري الأمريكي، والقاعدة الانتخابية لترمب، ومعظمهم مسيحيون متطرفون من وسط أمريكا، فهم يقدمون لأسباب دينية مصلحة إسرائيل في أي قضية تتعلق بمنطقة الشرق الأوسط.
ومما يؤسف له أن الدولة المعنية بشكل أكبر بهذا الاتفاق، وهي المملكة العربية السعودية، لم تشرك كطرف فعال في التفاوض حول هذا الاتفاق، ولم يأخذ جون كيري مصلحتها في اعتباراته الأولى. وكان هناك تباين واضح في الرؤى بين الدولتين حول الوضع في سوريا، وحول هذا الاتفاق. ويبدو اليوم أن هناك تقاربًا أكبر مع إدارة ترمب بهذا الخصوص، رغم أن ترمب يختلف عن أوباما في موضوعين رئيسين: الرغبة في سحب القوات الأمريكية من المنطقة والإبقاء على دور لأمريكا بحفظ التوازنات العسكرية فيها فقط. والموضوع الآخر هو سياسة أمريكا أولاً التي تشدق بها الرئيس الأمريكي كثيرًا أثناء وبعد انتخابه. وهنا يمكن القول إن إلغاء مثل هذا الاتفاق يصب في مصلحة المملكة، ولكن إلغاؤه من قبل أمريكا قد لا يكون للأسباب ذاتها التي تخدم مصلحة المملكة كما نراها نحن. فنحن نعيش زمن سياسة التوافقات والتقاء المصالح فقط وليس زمن الاتفاق وتطابق الرؤى. وتظل المنطقة حبلى بالأحداث المرشحة للتصاعد في وقت وبأي شكل متوقع أو غير متوقع، فليس ترمب وحده من يرى أن بلاده تأتي أولاً بل الجميع يتبع مثل هذه السياسة ولو لم يعلنوا عنها صراحة. ولعل لنا في إلغاء هذا الاتفاق الفائدة التي نرجوها، فنظام الملالي في إيران يشكل خطرًا مستقبليًا كبيرًا على المنطقة والعالم بشكل يفوق المصالح الوقتية والضيقة لبعض الدول.