د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
كانت رحلتي إلى «الخرج» رحلة ثقافية، وكان من جميل سوانحها أن كانت عيون الخرج في مستراد أمامي في حضرة وحضور تحكي شموخ ماضيها؛ فتروي حكايات الري العظيمة حين كان الماء صبًّا مقترنًا بمعاني خصوبة الخرج، ومتصلاً بهوية الخرج السياحية، وكان البساط الطبيعي الأخضر الذي يلوّح مُرحّبًا بكل محمولات إنسان هذه البلاد الطيبة، وكانت هناك سماء صافية بالنفوس الملأى!! فعندما حطت رحالي هناك كنتُ في هودج مع نساء الخرج في حضرة الصالون الأدبي والثقافي للسيدة المثقفة المؤثرة «سارة الخزيّم». وللنساء هناك حضور واعٍ، وملأن سمعي بحكايات الخرج بكل حميميتها؛ إذ روين لي بابتهاج باذخ أن تسمية الخرج تعني «الغلة أو ما يخرج من الأرض»، وأن الخرج منطقة زراعية ذات إنتاج يغطي حاجة «الحرمين» في عهود سابقة من تاريخ الجزيرة. وكان من الاستدلالات التي اهتز لها سمعي في ذلك اليوم ما ذكره صاحب «معجم اليمامة» عبدالله بن خميس - رحمه الله - بأن الخرج ذات تاريخ عريق، يرجع إلى العرب البائدة؛ فلقد كانت قبيلة (جُديس)تسكن الخرج وما حوله، أما في الجاهلية فقد كانت الخرج منافسًا كبيرًا لحجر، وهي مدينة «الرياض» الآن..
وحول الخرج حصن منيع آنذاك، يسمى حصن «خضرمة». والخرج كما وصفها المؤرخون في سالف عصورها: «أخصب إقليم في بلاد اليمامة، وأوسعها رقعة، وأكثرها ماء، وأشهرها إنتاجًا، تلتقي فيها أودية عظام من أكبر أودية العارض وأبعدها مدى. بها عيون جارية، تفيض عليها، وتشبعها نماء وخضرة ونضرة، فكأن هذه العيون بحيرات لا يدرك لها قعر، ولا يغيض لها معين. إذا توسطتْ الشمس كبد السماء، وألقت أشعتها على تلك العيون الساجية، عند ذاك نشاهد تحت الماء منظرًا عجبًا من أنوف جبال بارزة إلى مغارات موحشة، وسراديب مظلمة، وعمق لا نهائي، تتكسر أشعة الشمس دون مداه».
في ذلك المساء كانت نساء الخرج صورة جلية، يمثلن بيئتهن؛ فلقد عرفناها من خلال التلوين السردي أثناء القص والحكاية في حضرة جلوسهن الواعي. وأبدعت كل واحدة منهن في استحضار الزوايا الذكية لفضاءات الخرج ومدنه وقُراه وتضاريسه المعتَّقة؛ فهناك توق نحو «الدلم»، وبوح جميل يدغدغ أحلام «نعجان»؛ وجدل ناعم وفير نحو «الهياثم»، ينتهي بسلم وتسليم. وهناك «يمامة» تطير أخبارها فوق هام السحب كما هي بلادنا؛ وتتربع «السلميّة» لتتحدث عن ماضيها الذي يسترفد ما ينفع الناس، «والضبيعة» ترقى إلى جبال فيحاء شماء تعانق السماء. وهناك في مستراد الخرج تجاوزت النساء النمطية في اقتناص اللحظات المميزة التي اختصت بها بيئة الخرج. أما أنا فلقد خرجتُ من أمسيتي الأدبية وقد أيقنتُ أن الارتهان إلى محفوظ أولئك النساء وثقافتهن هو ما جعل «الخرج» تصنع في أعماقهن رؤى جديدة، يتناغم داخلها المحفوظ مع المشاهد. كما أن شواهد الخرج ومعالمه تتنامى لتستبطن روح القدماء، وتستجلبها بود لتبرز الحاضر التنموي الجميل لكل مفاصل الخرج ودروبه. حينما تذكرتْ النساء قصص جداتهن اللاتي طوى وجودهن الموت، وعندما يتحدثن عن شظف العيش واللهاث الحارق من الشباب خلف وظيفة خارج أسوار الخرج الزراعية.. وكان إصرار الأجداد على احتضان مستراد فضاء الخرج وإن قلَّ نداه، وكان الأجداد يرفضوا مغادرة البيوت الطينية في خرجهم الجميل لقناعتهم أن السكنى خارج ذلك الفضاء سيتبعها ضريبة تدفعها الأسرة، ربما طالت عفوية الإنسان وسكونه. ثم جاء الواقع التنموي للخرج ملزمًا؛ فكانت زراعية وصناعية، وذات منارات متعددة؛ يوظف عند ساكنيها عمق الإحساس بالحياة. نعم، إنهن يتحدثن عن مدينة قفز واقعها، وتباهتْ بذلك الواقع التنموي الحضاري، وأشرقت كل مدنها ومراكزها؛ وأصبحت مستقرًّا ومسترادًّا.
لقد وجدتُ في الخرج خروجًا مبهجًا للحياة، ورأيتُ في نخيلها الباسقات شموخ أهلها وطموحهم نحو المعرفة المتميزة، ورأيتُ حراكها التنموي الممتد المتعدد حتى تكونت للثقافة منصات حكومية وخاصة، وللنساء نصيب مما فرضت المرجعيات الثقافية الرسمية.
وتبدو جامعة الأمير سطام منبرًا يعلو المنابر في فضاء الخرج الجميل. وفي كل منصات التنمية يعلو المكان وآثاره التليدة والجديدة التي دائمًا ما تعلن واقعًا مكانيًّا وتنمويًّا جميلاً ومستقبلاً مشرقًا بإذن الله. ولله در شاعر الخرج الملهم خالد الخنين عندما باح للخرج والوطن الممتد فقال:
يا أيها الوطن الممتدُ بين دمي
وبين ذاكرتي فاشمخ على كبر
بين الرياض وبين الخرج ما نفحت
لك القصائد من زهرٍ ومن ثمرِ