سعد بن عبدالقادر القويعي
لم تمنع الشريعة الإسلامية الاستفادة من العلوم الحديثة، كالحساب الفلكي بمستجداته، وتقنيات الرصد المتقدمة، ونحوها في مصالح الناس، ومعاملاتهم، فالإسلام لا يتعارض -أبدا- مع العلم، وحقائقه؛ ولأن الثابت أن لهذا الكون قوانين، وسننًا تحكمه، هي من صنع -العلي القدير-، الذي خلْقه في غاية الإبداع، والانتظام، والإتقان، -ولذلك- فإنه يلزم لقبول الشهادة برؤية الهلال: ألا تكون الرؤية مستحيلة حسب حقائق العلم المسلمة القطعية، وحسب ما يصدر من المؤسسات الفلكية المعتمدة، وذلك في حالة عدم حدوث الاقتران، أو في حالة غروب القمر قبل غياب الشمس.
ثم إن نتائج الحساب الفلكي قطعية، تبلغ درجة اليقين، وتؤدي إلى المقصد الشرعي بطريقة أكمل، وإلى درجة عالية من الدقة، والضبط للرؤية، أما الرؤية فهي ظنية، باعتبار أن الشهود ليسوا معصومين من الخطأ. وما دامت أن العلة المذكورة في قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّا أمَّة أمِّيَّة لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين»، فإن الحكم يجري مع علته وجودا، وعدما، فإذا انتفت صفة الأمية عن الأمة، وجب الرجوع إلى الحساب الفلكي بزوال علة منعه.
أذكر جيدا -قبل سنوات قليلة-، أن إحدى توصيات مؤتمر الإمارات الفلكي الثاني، الذي حضره فقهاء، وعلماء كبار من عدد من الدول الإسلامية، أنه إذا قرّر علم الفلك، أن الاقتران لا يحدث قبل غروب الشمس، أو أن القمر يغرب قبل الشمس في اليوم التاسع والعشرين من الشهر، فلا يُدعى لتحرّي الهلال. وأقرّ الفقهاء -أيضا- أن لا تعارض بين هذه التوصية، وبين سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بتحرّي الهلال، إذ إن هذه التوصية متعلقة -فقط- بالحالات التي نعلم فيها مسبقاً، أن القمر غير موجود في السماء؛ بناءً على معطيات قطعية، ومن الفقهاء الذين دعوا إلى مثل هذه التوصية؛ حتى قبل انعقاد المؤتمر -فضيلة الشيخ- عبد الله بن منيع -عضو هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ومستشار الديوان الملكي-، -إضافة- إلى أن هذه التوصية معتمدة بطبيعة الحال في بعض الدول الإسلامية، والتي تعتمد رؤية الهلال أساساً لبدء الشهر الهجري.
وعليه، فإن القمر يوم الثلاثاء الموافق 29 / 8 / 1439 هـ، سيغيب قبل غروب الشمس بخمس دقائق في بغداد، وقبل غروب الشمس بأربع دقائق في كل من: الكويت، ومسقط، وبيروت، ودمشق، وقبل غروب الشمس بثلاث دقائق في كل من: الدوحة، والمنامة، وأبوظبي، وعمّان، والقدس، وقبل غروب الشمس بدقيقتين في الرياض، وقبل غروب الشمس بدقيقة واحدة في القاهرة، وسيغرب القمر مع الشمس في تونس، وسيغرب القمر بعد الشمس بدقيقة واحدة في كل من: مكة المكرمة، وطرابلس، والجزائر، وسيغرب القمر بعد الشمس بدقيقتين في صنعاء، وسيغرب بعد الشمس بأربع دقائق في الخرطوم، والرباط، ورؤية الهلال في جميع هذه المناطق -السابقة- هي ما بين مستحيلة، وغير ممكنة حتى باستخدام التلسكوب الفلكي، كما قرر ذلك علماء الفلك المختصون.
إن الجدل في هذا الباب ما يزال قائمًا، والحاجة ملحة إلى دراسة معمقة، يراعى فيها ما جاءت به الشريعة، مع الاستفادة مما يسره الله من تقدم كبير في علم الفلك، وحساباته، ومراصده؛ حتى تتمحص فيها وجهات النظر المختلفة؛ للوصول إلى حلول ناجعة. كما أن تناول النوازل، والقضايا المستجدة في حياة المسلمين، تناولا يتجلى فيه الاجتهاد الجماعي، الذي تمس الحاجة، وتدعو إليه الظروف المعاصرة؛ مما يضمن الفهم الصحيح لها، ومن ثم التطبيق السليم، هو الأصل، وما يثبت من حقائق علمية في الفلك، والحساب مرتبط بهذا الأصل، وليس معارضًا له.