د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
الأدب وثيقةٌ اجتماعيةٌ فكرية، وصلته بمختلف جوانب المعرفة قويةٌ منذ القدم، فهو مظهرٌ من مظاهر الحياة الاجتماعية، وواحدٌ من تجلياتها المتعددة، ومرآة تعكس نبض الحياة التي يعيشها الأديب، ومن هنا تأتي هذه السطور لتكشف عن واحدةٍ من هذه التجليات، وهي علاقة الأدب بالسياسة، وكيف يمكن استثمار الفنون الأدبية في تحقيق بعض الغايات السياسية، من خلال لمحةٍ سريعةٍ عن أشهر الكتب البارزة في العصر العباسي، وهو كتاب (كلية ودمنة) لعبدالله بن المقفع، أهم أساطين الأدب العربي، وأبرز أعلام الكتابة الديوانية.
لقد أفاض الباحثون في الحديث عن الكتاب والجهد الذي بذله ابن المقفع في ترجمته، إلا أنَّ المهم هنا -كما يرى قحطان الفلاح- هو ما حملته قصصه من مغزى سياسي، فكثيرٌ منها تحفل بالحِكم، والمواعظ السياسية التي تُعنى بموضوع السلطان، وما يتصل به من بقاء الحكم، والحفاظ عليه، والالتزام بواجبات الرعية؛ ليكون سياسياً ناجحا، إضافةً إلى الأخلاق التي تليق به؛ كالعدل، والحزم، والأناة، والصبر، وحسن العفو، وسياسة الجند، وغيرها.
ويتوقف الفلاح عند السرد القصصي في الكتاب، وكيف أنه يتم من خلال وحدة الراوي (بيدبا الفيلسوف)، والمروي له (دبشليم الملك) الذي يحدِّد له الموضوع، وإن كان الراوي يحفِّزه إلى التجديد من خلال متعة السرد ولذة القص وغرائبيته، والسعي إلى تأكيد صحة قضيةٍ سياسيةٍ، أو قاعدةٍ أخلاقيةٍ، أو حكمةٍ اجتماعيةٍ تربوية، فيسأل الملك سؤاله المتكرر دائما: وكيف كان ذلك؟ مما يشي برغبةٍ جامحةٍ في السماع والتلقي، وغالباً ما يبدأ (بيدبا) السردَ بعبارة: (زعموا أن) التي تفيد أنَّ الأحداث غير محددة الزمان؛ إذ هي تمثيلٌ كنائيٌّ لمعنى حِكمي يريد المبدع إيصاله، ولعل في هذا الصنيع إثارةً تشويقيةً للمتلقي، فضلاً عن الوظيفة الإبلاغية أو المعرفية، وأحياناً لا يشرع بالسرد مباشرة، بل يمهد ببعض الحكم والأقوال التي تنبثق من الحكاية ذاتها، أو تؤكدها الحكاية فيما بعد.
ويرى الفلاح أنَّ باب (الأسد والثور) بدايةٌ لصلب الكتاب، وما سبقه مُقدِّماتٌ له، وفيه يرمز (الأسد) إلى السلطة العليا في الدولة، وموقفه تجاه حاشيته، وما يحدث في غمار ذلك من حيلٍ ومكايدٍ ودسٍّ وافتراء؛ لبلوغ أماني النفس والاستئثار بعظيم المنزلة، كما صنع (دمنة) الشرير الذي تآمر على الثور (شتريه) بعدما علتْ منزلته عند الملك الأسد، فحسده حتى فتك به وقتله! ولعل هذه القصة تمثِّل حال وزراء السلاطين وأعوانهم قبل عصر ابن المقفع وبعده، إذ اصطلى بنار السياسة وويلاتها عددٌ من وزراء عصره كأبي سلمة الخلال الذي قُتل رغم أثره المحمود في الدعوة العباسية، ومن بعده نكب المنصور وزيرَه أبا يعقوب المورياني، كما قتل أبا مسلم الخراساني قائد ثورتهم ومقوِّض عرش أعدائهم.
وينتقل الفلاح إلى باب (البوم والغربان) الذي يراه ممثلاً للسياسة الخارجية للدول، وكيفية الحفاظ على أمنها واستقرارها، وما ينبغي للحاكم أن يصنعه تجاه عدوه الذي يظهر المودة والإخاء، ويشير إلى أنَّ هناك أبواباً أخرى في الكتاب يمكن للمتأمل أن يقف عليها وقفة تدبر في بحوث مستقلة تكشف عن دلالتيها: التاريخية المعاصرة للكاتب، والإنسانية الخالدة، كما تكشف أيضاً عن مستواها الفني، ومدى أثرها في المتلقي.
ولهذا يذهب النقاد إلى أنَّ الحكاية الحيوانية عامة ضربٌ من التمثيل الكنائي الرمزي الذي ينحو منحى الرمز، وأنَّ الوظيفة الدلالية للرموز الحيوانية تستحضر في الذهن مدلولات بعينها عن طريق المقابلة والمقارنة، ولا يقتصر ذلك على عصر بعينه، ومن هنا بقيتْ قصص الحيوان خالدةً على تعاقب الأعوام، وصالحةً لدلالات شتى، وفقاً لأفق توقعات المتلقي، ودائرة اهتمامه، ومرحلته العمرية.
ويشير الباحث إلى أنه مما يلفت في جهود ابن المقفع في ترجمته للكتاب أنَّ باب (الفحص عن أمر دمنة) كان من وضعه؛ لأنه غير موجود في الأصول الهندية، وقد جعله ينتصر للعدل والإنصاف، فينصب للشرير (دمنة) محكمةً عادلة؛ لأنه أفسد المودة المعقودة بين الأسد الملك والثور (شتريه)، فأهلك الثور بخبثه ومكيدته، في حين أنَّ النصَّ الهندي ينتصر للوزير الظالم؛ إذ الغاية تبرر الوسيلة، فلم يندم الأسد على هلاك الثور، بل لم يفكر به أصلا، وجعل (دمنة) الشرير وزيره، وعاش سعيدا.
ويؤكد الفلاح على أنَّ هذه الحكم السياسية كانت مادةً خصبةً لمصنفي المصادر التراثية؛ كابن قتيبة الذي نهل من معين (كليلة ودمنة) في (عيون الأخبار)، كما كانت منهلاً عذبا لكُتَّاب السياسة؛ كالماوردي في (الأحكام السلطانية) و(تسهيل النظر)، والطرطوشي في (سراج الملوك)، وابن الأزرق في (بدائع السلك).
ويذهب الباحث إلى أنَّ القص على لسان الحيوان والإفادة منه سياسياً كرمزٍ يشي ب المرموز إليه وستارٍ يشف عما وراءه كان ظاهرةً فنيةً جديدةً في العصر العباسي، من حيث كونها عملاً قصصياً متكاملاً، ومدوناً في الوقت ذاته، فضلاً عن كونه مذهباً أو اتجاهاً اتبع سننه كثير من الكتاب العباسيين.
وأختم بنماذج من هذه الحكم والأمثال السياسية التي يختارها الباحث ويزخر بها الكتاب:
- أربعةٌ لا ينبغي أن تكون في الملوك: الغضب؛ فإنه أجدر الأشياء مقتا، والبخل؛ فإن صاحبه ليس بمعذور مع ذات يده، والكذب؛ فإنه ليس لأحد أن يجاوره، والعنف في المجاورة؛ فإن السفه ليس من شأن الملوك.
- العاقل يصانع عدوه إذا اضطرَّ إليه، فيُظهر له ودَّه، ويريه من نفسه الاسترسال إليه، إذا لم يجد من ذلك بُدَّا، ويُعجِّل الانصراف عنه، إذا وجد إلى ذلك سبيلا.
- مَن غالَبَ الملكَ الحازمَ الأريبَ المصنوعَ له، الذي لا تبطره السراء، ولا يدهشه الخوف، فإنَّ حينه يجدر به.