الإبداع بكل ألوانه الرحبة هو من نسج الخيال، أي أنه «كذب محبب». ربما يكون الإبداع مبنياً على قصص واقعية، ولكن يتم «إخراجها» بصورة أكثر تأثيراً مما هي في الواقع! وقد يكون الإبداع حداثياً، أي أنه يحرض على نبذ السلبيات واستنهاض الإيجابيات لمسيرة التقدم الاجتماعي، وقد يكون العكس تماماً ولكن هذا النوع أيضاً يبقى إبداعاً في نهاية المطاف! إنما إبداع «تراثوي سلبي». ولا يجوز للحداثي نفي وجود أو إلغاء التراثوي أو العكس، فكليهما مبدع والذي يسوغ هذا النوع أو ذاك هو الوعي الاجتماعي. أما لماذا تراثوي وليس تراثياً؟.. الجواب يتعلق بالممارسة وليس بالفكرة «المطلقة»: التراثي هو من يستخدم مخزونه من التراث ليرتقي «بإبداعه» سلبياً كان أم إيجابياً، وبهذا المعنى يصبح الحداثي والتراثوي كليهما «تراثيان»، أما التراثوي هو من ينهل من التراث كل ما هو سلبي ليطعّم إبداعه بهدف إعاقة التقدم الاجتماعي!
إذن الإبداع ليس «رونقاً» من الكلام يوضع على الرف ونتغنى به حسب المزاج، إنّه فاعل فعلاً عميقاً في الحركة الاجتماعية! ولذلك فهو مسؤولية وأمانة عند المبدع لا يخصه هو وحسب، بل هو حق «الغلابة» من الناس بالدرجة الأولى.
فلياناردو دافينشي كان رسام الكنيسة بل «أم الكنائس» في روما، ولكنه الأول في التاريخ الذي رسم مريم العذراء عليها السلام بوجه فلاحة! وعرّض نفسه للإقصاء والاضطهاد الكنسي، ولكن المؤرخين فيما بعد اعتبروه من مؤسسي عصور النهضة والتنوير في أوروبا والعالم.
المبدع الذي يوظف فنه خدمة للحاكم «كأبو نواس» مثلاً، ومهما كانت قدراته الإبداعية رفيعة، يكون مثاراً للسخرية وإلصاق التهم من كل الصنوف، أما المبدع الذي يوظف فنه لخدمة «الثورة» كالمتنبي يبقى نبراساً للفن على مدى التاريخ والجغرافيا!
المسرح هو درّة الإبداع، لذلك قال «صاحب المسرح» العلامة المبدع «شكسبير»: أعطني مسرحاً وممثلين أعطيك شعباً مثقفاً، وكان يقصد «شعباً متقدماً بالوعي»، وليس الثقافة بمفهومها المطلق أو الإعلامي الرخيص. فهو بالتأكيد يقصد (شعباً حداثياً يخلع قيود التخلف التي تُكَبِّلُنا طواعية أو إجباراً!)، ليكون كل فرد فينا رافداً من روافد نهر التطور.
ليس كل مسرح هو كما أراده شكسبير، يوجد مسرح «تراثوي» أيضاً، أي «إبداع سلبي» يلجم مسيرة التطور، بل يحاول المستحيل! أي إيقاف التطور. ويوجد نوع ثالث، أي إفراغ المسرح من محتواه، وجعل الممثلين يتحركون على الخشبة كالقردة بلا هدف، ويقال عن هذا النوع «الفن للفن»، أي أن الإبداع ليس حاجة إنسانية كالهواء والغذاء، إنما الفن الذي يشجعه ويدعمه الرأسمال بما لا يعقل من الأموال «والدعاية» الإعلامية هو الفن الفارغ الذي يشوه الوعي!
قد تأخذ «الريموت» وتغير القناة التي تقدم لك النوع الفارغ من الفن.. هكذا ببساطة.. دون أن يرف لك جفن! حتى لو انهال عليك سيل من الانتقادات واتهمتك المدام «بدكتاتورية الريموت»! ولكن ماذا لو كان «الفن الفارغ» يغزو حياتك مباشرة؟ ولا أقصد هنا تشكيل عقلك الباطن وغسيل عقلك الظاهر والمستتر معاً، فهذا أمر لا شك فيه وأُشبِعَ قولاً، إنما أقصد «الفن» الذي ربما يرديك شهيداً أو قتيلاً! أي فن تشويه الدين أو إثارة الفتنة الطائفية أو المذهبية أو القومية أو القبلية...الخ، أو الذي يجلدك بكل أنواع «السياط» الرنانة؛ كالراديكالية والانتهازية والدكتاتورية والتحريفية...الخ.
أتعتقد عزيزي القارئ أن الكذب «الخلاق» أو الخداع أو تشويه الحقيقة ليس فناً؟.. ماذا لو قلت لك أنه هو «الفن» المعترف به دولياً! وتوزع بموجبه الألقاب مثل: دكتوراه.. واه.. واه، وبروفيسور وفنان العصر وربما يحوز صاحبه على جائزة نوبل «للسلام»!..
في وقتنا الحالي أصبحت الخيانة والوقاحة والبجاحة والنذالة والغدر هي وجهات نظر «فنية» في المسرح السياسي! ويصبح الصفيق الخالي من أي إبداع والكاذب والمجرم مثل نتنياهو أستاذاً محاضراً في مجلس الأمن أمام ممثلي البشرية كلها، ليعلمنا وكأننا تلاميذ الصف الأول أن الكيان الإسرائيلي يريد السلام! ولكن لا «أحد» يمنحه الفرصة! ثم يجيّش الإعلام العالمي «النزيه» و»المهني» كله برسومات يخجل منها حتى الطفل، ليعيد برمجة وعينا ويغسل ما تبقى من عقل لدينا، ويغرس في أذهاننا عنوةً من هو العدو ومن هو الصديق!
** **
- د. عادل العلي