القاص الذي إن تكسرت أخشاب قاربه يبقى مبدعا ، لكن أين مؤسساتنا الثقافية عنه ..؟!
الإبداع فلسفة عميقة تتجدد باستمرار ، وتجددها لا يلغي سابقها ، بل ربما يعطيه سمة بارزة ، وهو لغة وأسلوب ، فن وعمق ، والإبداع هو خروج عن المألوف ؛ قرب أو بعد عن الابتكار ..!
الإبداع له أثواب متعددة ، حينما تتأملها تجدها بألوان ومقاسات مختلفة ، تجعلك حتما تقف عندها متأملا ، ليس بالضرورة إعجابا ، وليس بالضرورة أيضا انتقاصا لها ، فكلا الأمرين فلسفة ومسألة ذوقية ، فالفن والكتابة إبداع ، والكتابة والإبداع فن ؛ والفن والإبداع ليسا كعلاقة رياضية أو حسابية (1 + 2 = 3)، ففي الإبداع الأمر مختلف تماما ، لذا حين تكتب شهادة عن مبدع سواء كان صديقا أو خلافه تبقى الشهادة ذات منطوق واقعي لا تشوهه ألوان براقة ولا يطلى بدهانات لامعة، بل لابد أن تعكس هذه الشهادة حقيقة صادقة نحو هذا المبدع أو ذاك .. وشهادتي لقاص حفر له اسما في دهاليز الكتابة الإبداعية وقبلها في الكهوف الصحفية لهي شهادة لا تتغطى بملاءة الزيف ولا تتلون زيفا بلون الورد أو لون الشجر ، بل هي شهادة مرتدية عباءة الحقيقة التى أجد نفسي قريبا من الإنصاف فيها .. لذا لا يمكنني أن أتناول إبداع رجل صنع من البحر ، الرمل ، والرماد إبداعا .. إن دخوله مغامرة الكتابة والتحرش بها هو إبداع وإن تفاوت عمقه من أرض لأخرى ومن بحر لآخر ومن نعومة صوت إلى خشونة آخر ، ومع هذا سبح الجاسم في بحرها ..
كل ما أبدعه القاص والروائي الصديق جاسم الجاسم يستحق الوقوف عليه والتأمل فيه .. فجاسم الجاسم الرجل المثابر والقوي بكتب بلغة سهلة ، لكن بها عمق فهو يجسد بيئته ويشخصن أحداثها ويرويها بتكنيك فيه تشويق ، فيتناول الفكرة ويمحورها في اطار يحمل قداسة السرد وإن كان بسيطا وقريبا من اللغة المحكية إلا أنه يشكل إنموذجا رائعا في كتابة القصة والقصة القصيرة جدا والرواية والسير الغيرية .
جاسم الجاسم يتلون فيما يبدع ولا يمكنني إلا أن أقف صامتا ومتأملا وإن تجاوزت ذلك فلن أهرب إلا إلى التصفيق في أحايين كثيرة .. لن أتحدث ولن أقف على تجربة محددة له ، بل سأقف وانظر إليه تارة وأنا في سفح الجبل وهو على قمته وتارة أخرى انظر إليه وأنا على قمة الجبل وهو في السفح لأراه كاملا من كل الزوايا وأكتشف مساحات وحدودا ، ربما لم أراها من قبل .
نعم إبداعات الجاسم تعتمد في قوتها على تراكمها الإنتاجي وتنوعها وتشخيص الواقع الذي يعاش من حوله بأدوات تبرز هفواته وما به من عثرات وبلغة تشويقية .
اختار الجاسم لعناوين نتاجه المفردات التالية : الرمل ، النجوم ، الرماد ، الصوت ، الشيطان ، البحر ، الحب ، النافذة ، الغرفة ، وحينما تتأمل هذه المفردات تغوض في عمقه الذي ربما تملأ بها مساحة كبيرة من فلسفة بئر الإبداع الذي يستغي منه إبداعاته فتآلفه ما بين هذه المفردات بتكنيك يحمل نكهة خاصة به تحمل هويته إبداع ، وفي إطارات مختلفة الأحجام لدلالة كبيرة لغزارة قدرته الإبداعية ، ربما كبتها طويلا داخله ولم يفرغها إلا في نضوجه الذهني ، حتى أنها تزاحمت فيما بينها ، واخذت تتنافس إلا أنه أستطاع بخبرة رجل ناضج أن يبلور ويتوأم فيما بينها .. إنه الجاسم المبدع المجتهد الذي ينبض برضا إلى إبدعاته وإن سطحها آخرون .. المبدع الجاسم عاش وخدم كثيرا وهو الآن يأن من وطأة المرض وأخذ نظره يتلاشى فإلى متى لا تتنبه مؤسساتنا الأدبية والثقافية في الأحساء والشرقية بتبني هذا الرجل المبدع وتسليط الضوء على إبداعاته وكتاباته ونتاجاته، فهو رجل سبعيني ويستحق الاحتفاء به وتكريمه . نعم يحق له ذلك ، ونحن نمد إليه سعف النخيل اعترافا بأصالة إبداعه المستمد من أرض الحضارات .. أرض النخيل؛ أرض الأحساء .. والجاسم وإن تمزقت أثوابه يبقى حريصا على إدارة الرحى ..!
** **
- حسن علي البطران
albatran151@gmail.com