د. عبدالحق عزوزي
عرفت تونس في الأيام الأخيرة انتخابات بلدية هي الأولى منذ ثورة الياسمين لسنة 2011، إلا أن العزوف عن المشاركة كانت السمة الغالبة عليها، إذ شارك ثلث الناخبين فقط وهي نسبة قياسية بدت فارقة في مسار الحياة السياسية الناشئة في تونس، وبدت كرسالة وجهها الشباب إلى السياسيين. وعنونت صحف كثيرة خبرها الرئيسي بالإقبال المخيب للآمال و»صدمة المقاطعة».
لم يشارك إلا 33.7 بالمائة من الناخبين التونسيين في هاته الانتخابات رغم أنها تعتبر فرصة حقيقية لترسيخ حكم محلي فعلي والتوجه للا مركزية في تونس بعد عقود من سيطرة الحكومة المركزية على سلطة القرار وتهميش المناطق الداخلية. وقد اختار ثلث الناخبين المسجلين الذين يبلغ عددهم 5.3 مليون ناخب في هذه الانتخابات، ممثليهم في 350 دائرة بلدية بمختلف جهات البلاد وهي خطوة هامة لإرساء تجربة الحكم المحلي ونظام اللامركزية الذي نص عليه الباب السابع من الدستور.
تونس التي كان أزيد من 80 في المائة من الكراسي البرلمانية تعطى باسم القانون للتجمع الدستوري الديمقراطي في عهد بن علي، تستحق دائما التحية والتشجيع... فلا الجيش كان خائنًا أو متهورًا، بل كان محايدًا وحاميًا للدولة والمؤسسات ومحاربًا لرموز الإرهاب الداخلي والعابر للقارات، ولا النخبة السياسية التونسية كانت دون المستوى المطلوب، ولا الإسلاميون كانوا متعنتين أو أصحاب غلو، ولا كان هناك تدخل خارجي مخرب للقشرة الحامية للدولة كما في ليبيا واليمن والعراق ولبنان وغيرها.
ولا غرو أن أفضل درس استقيناه من التجربة التونسية هو أن التعاقد على مشروع مجتمعي هو أساس النظام الأمثل. فلا يكفي نظام سياسي أن يقوم على أساس دستوري، وأن يشهد زيادة لا حصرية في عدد الأحزاب، وأن يجسد ذكاءه في النظام التمثيلي والنيابي... فلحظة البناء السياسي تستلزم ترجمة تلك النوايا الحسنة والأدوات السياسية السليمة والإجراءات القانونية إلى نظام للمجتمع، وإلى حياة سياسية قارة تتحول فيها سلطة الدولة إلى ميدان لمنافسة حرة ونزيهة وشريفة بين كل القوى والجماعات السياسية المتنوعة، بمعنى كما يقول حراس العلوم السياسية المقارنة أن البناء السياسي المتكامل يبدأ من الاعتراف بالحق في التمثيل، وليس مجرد إجراءات تحسينية لتنفيس احتقان اجتماعي أو امتصاص ضغط خارجي.
نجحت تونس في الجانب المؤسساتي خلافا للعديد من الدول كالعراق وليبيا، ولكنها لم تنجح في الجانب الاقتصادي والتنموي رغم مرور سبع سنوات على ثورة الياسمين؛ والسلم الاجتماعي لا يترسَّخ جذوره بمجرد حلول ربيع الانتخابات بصفة دورية ومستمرة؛ فالسلم الاجتماعي معادلة صعبة يدخل فيها السياسي والتنموي، إذ بدون تنمية اقتصادية وتنمية مستدامة تَعوَجُ أغصان شجرة الدولة بل قد تذبل ويصيبها الأذى ويحكم عليها بالأمراض إذا لم تعمم الحكمة بسرعة، وترو الجذور بماء التنمية البشرية المستدامة والحكامة الجيدة؛ وبالإمكان أن تنجح هذه العملية إذا كان هناك عقلاء مختصون يخططون وينفذون نمطا للتنمية يمكن الإنسان بدلا من تهميشه من توسيع فرصه وخياراته، ويقوم بالتركيز على دور البشر ككائنات فاعلة لا مستهدفة بتدخلات محدودة أو مقيدة في الزمان والمكان. فالتنمية هي انبثاق ونمو كل الإمكانيات والطاقات الكامنة في كيان معين بشكل كامل ومتوازن، سواء كان هذا الكيان فردا أو جماعة أو مجتمعا، والتنمية ما هي إلا تغيير قوي وكبير يحرك الأمة نحو ذلك النوع من الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية التي تقررها وتحددها لنفسها؛ وتكون بذلك التنمية وسيلة للتغيير نحو الأنماط المجتمعية التي تسمح لها، ليس فقط بتحقيق القيم الإنسانية المثلى، بل وأيضا إلى زيادة قدرته على التحكم والسيطرة على نمو مجتمعه، هذا هو المطلوب.
إن هذا العزوف الخطير في الانتخابات البلدية، وفي كل انتخابات العالم التي تعرف مثل هذا «التمرد الانتخابي» مرده للأسف الشديد في غالب الأحيان إلى بدء فقدان الثقة بين النخب السياسية والناخبين؛ وهاته الثقة هي العمود الفقري لبناء الدول وترسيخ الحكامة والتمثيلية المناسبة وربط المسؤولية بالمحاسبة؛ فعلى هاته النخب السياسية أخذ الدروس والعبر وإيقاف فقدان الثقة الذي إذا ما استمر سيؤثر على الانتخابات التشريعية المقبلة؛ فلا تكفي انتخابات دورية ونزيهة وترشيحات من أحزاب متعددة؛ فلا بد من الاستثمار في العامل البشري بكل الطرق الذكية سياسياً وتنموياً واجتماعياً واقتصادياً وتربوياً وتعليمياً: هنا يكمن الخلاص.