أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: اعلموا أن حجة الله قائمة فالجة فيما بثه في الآفاق والأنفس؛ ولا يهلك على الله إلا من أبـى؛ وبتلك البراهين الفالجة: آمن المكلفون بما جاء من عند الله سبحانه وتعالى ببلاغ أنبياء الله ورسله عليهم صلوات الله وسلامه وبركاته، ثم بعد ذلك يكون شرع الله الذي جاء من عنده هو المرجع نلتزمه بلا نقص ولا إضافة ولا استبدال؛ ولولا ذلك لكان تناقضا؛ إذ نأبى ما نهى الله عنه إيجابا، ونلتزم ما أمر به إيجابا؛ ونختار ترك ما نهانا عنه كراهية من غير إيجاب، كما نختار ما رضي لنا فعله استحبابا من غير إيجاب؛ ونؤمن بيقين لا تشوبه شائبة أن ما جاء من عند الله: هو المعقول والـحكمة والعدل والرحمة والصدق والعصمة.. واعلموا أن كلام الله سبحانه وتعالى هو مصدر جميع العلوم اليقينية النافعة.. وقد يقول قائل: (كيف هذا؟)؛ فيكون الجواب: أن الله خالق الخلق وما صنعوا؛ وكل من سوى الله فهم عبيد الله وخلقه وملكه: نواصيهم بيده، ماض فيهم حكمه، عدل فيهم قضاؤه؛ وكل ما عندهم من رزق أو حول أو علم؛ فهو منحة من الله الغني الحميد العزيز الحكيم؛ فهم يريدون تحصيل المعرفة البشرية المقيدة بالمعرفة الشرعية؛ وهي العلم بالمنطق الذي هو عند الكسالى تزندق؛ فهم يقولون: (من تمنطق تزندق)؛ وكذلك العلم بفلسفات الأمم القديمة والحديثة، ومن ثم يشرفون عليها باستعلاء؛ وهم كلهم علمهم من عند الله، وما أوتوا من العلم إلا قليلا؛ وليس اتباع مجمل المعرفة البشرية من عند الله على الإطلاق؛ لأن الله جعل اختيار الحق أو الباطل تابعا ما منحهم من حرية الاختيار؛ فمن اختار الحق والخير والجمال نال رضوان الله، ومن اختار أضدادهن هلك؛ لأن الله منح عباده هداية البيان والإيضاح؛ وذلك هو الحجة الفالجة، وهداية الإعانة والتوفيق: إما جزاء كريما على ما فعله العبد من طاعاته ربه، وإما اصطفاء من غير سابق عمل كإعانته وتوفيقه رسله؛ والله أعلم حيث يجعل رسالته؛ فنسب اتباع الباطل إليهم، ونسب اختيار الحق إلى نفسه سبحانه؛ لأنه لا يهتدي ألا من هدى الله.
قال أبو عبدالرحمن: إتقان لغة القرآن الكريم بعد التحقيق دلالة أمر ضروري؛ لأن الله معلم اللغات لا يشغله سبحانه وتعالى لسان عن لسان؛ وكما لا تشتبه عليه الألسن: فكذلك لا تلتبس عليه الألوان والأحوال كما قال سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} [سورة الروم/ 22]، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [سورة الأنعام/ 91]، وقال سبحانه: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [سورة النحل/ 78]، وقال سبحانه: {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة البقرة/ 282].. ومعلم اللغات جل حلاله هو الذي يعلمنا لغة العرب التي نزل بها القرآن الكريم بـما أضافه إلى لغتهم بحكمه الشرعي مثل الإيمان؛ فهو حصول الأمن والطمأنينة التي من ضمنها الصدق؛ فأنت بتصديقك من يحدثك عن شيىء تصدقه مطمئنا إليه وإلى حديثه، ثم أضاف الله بحكمه الشرعي إلى ذلك القول بأن تقول: (آمنت بالله) مع أن مـحل الإيمان القلب، ولكن بحكم الله الشرعي صار الإيمان قولا باللسان، واعتقادا في القلب.. وأصل آمن (أأمن) بمعنى حصل الأمن والطمأنينة في قلبه؛ فاطمأنت جوارحه.. وأذكر إخواني بضرورة تزكية النفس من نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ ولا سيما من سور أخلصها الله لمجامع الأخلاق الفاضلة مثل سورة الفرقان، وسورة المؤمنون، وسورة النور .
قال أبو عبدالرحمن: سيظل المسلم مدى عمره إن جعل الله له فسحة في العمر في بركات كل شهر من شهور رمضان المبارك إن كان صيامه إيمانا واحتسابا، وقامه إيمانا واحتسابا، وتـحرى ليلة القدر بجد وشوق فشد المأزر، وأيقظ أهله؛ فيصادفها.. وأعظم بركات شهور رمضان المبارك أن كل شهر من شهوره يخلف وراءه تربية تربط الشهر بالشهور التي بعده؛ فيصبح العبد من جرائها من فئة الملإ الأعلى الذين أنعم الله عليهم؛ وهم النبيون والمرسلون والصديقون كأبي بكر ومؤمن آل فرعون رضي الله عنهم، والشهداء، والصالحون؛ وحسن أولئك رفيقا؛ فيظفر بالمقام الأعلى يوم التغابن، مع النعيم المقيم في كل دنياه من جراء محبته ربه، ومعاينته ألطافه، ولذاته التي لا تنتهي؛ وذلك بمقتضى دين ربه أخبارا وأحكاما ولغة وبلاغة ورتوعا في معاني أسماء ربه وصفاته؛ فيرى الكون (وكل ذلك صادر عن عظمة الرحمان وإيجاده جل جلاله) كلا شيىء أمام عظمة الرحمن؛ ولا يحيط بعظمة الرحمن إلا الرحمن نفسه، وإلى لقاء في السبت القادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.