فيصل خالد الخديدي
الإنسان اجتماعي بطبعه، مخالط بفطرته، يحرص على أن يكون وسط مجتمع يألفه، ويعيش معه أواصر التواصل والتفاعل والتعايش في كل مفاصل حياته. وعادة متى ما شعر بأنه غير متجانس مع أفراد المجتمع الذي هو فيه يغادره لمجتمع آخر أكثر ألفة له وتقبلاً. والمجتمع عند ابن خلدون هو تجمع لمجموعة من الأفراد الذين تربطهم فيما بينهم علاقات متبادلة. أما وظيفة المجتمع فيراها مالك بن نبي أنها حفظ كيان الفرد، وتحقيق أهداف الجماعة. ولكن مع الاتجاهات المادية والرأسمالية والنفعية، وتسليع كل شيء في المجتمعات، لم يعد هناك هوية مشتركة، بل هي مصالح مشتركة, وأصبح العقل الحديث السائل يرى في العلاقات البينية لأعضاء المجتمع وإن صغر أن الالتزامات الدائمة ظلم وغم, وأن لكل شيء بديلاً جاهزًا، ولكل عاطب قطع غيار تُستبدل بلا إحساس لانتماء ولا شعور بفقد. هذا التحول السريع في بنية المجتمعات جعلها أكثر قلقًا، وأقل استقرارًا ودوامًا في العلاقات الإنسانية؛ فالمجتمع الصغير يأتي عوضًا عنه مجتمع آخر، وأعضاء المجتمع يعاد تشكيلهم حسب التغير السريع لقوانين هذا المجتمع إن وُجدت؛ فالالتزام أصبح أسرًا، والعلاقات المجتمعية تخضع للتمرد في روابطها، والمصالح ديمومتها أكثر جذبا من الالتزام بقوانينها المجتمعية.
الفنون التشكيلية نشاط إنساني، غالبًا ما يكون فرديًّا، ليس كبقية الأنشطة الجمعية التي لا تقوم إلا بتضافر جهود المجموعة كالمسرح. والمجتمعات التشكيلية لم تختلف كثيرًا عن نسيج المجتمعات الأكبر التي تعيش وسطها، وتمتد منها وبها؛ فهي وإن صغرت إلا أنها أكثر سيولة وأسرع في التشكل والبناء والهدم؛ فالذاتية تحكمها، والمزاجية تعطلها، وتحرك بوصلتها، والمصالح السريعة والآنية تسيّر تجمعاتها؛ فلم تعد الأساليب الفنية والرسائل الفكرية والنظم الإبداعية تحكم هذه التجمعات ولا حتى النظم والقوانين المؤسسية, بل إن الفردية والتحولات المتسارعة في العلاقات البينية هي السائدة والمحركة لها؛ فمن مجتمعات برامج التواصل السريعة الإنشاء والهدم والمغادرة إلى المجتمعات الأكبر التي ينتج منها معارض أو مشاريع وقتية، معظمها تتسم بالسيولة وتبادل الأدوار؛ فأصدقاء اليوم فرقاء الغد، تحكمهم المصالح، وتحركهم الأهداف الآنية في معزل عن عمق العلاقة الإنسانية التي كانت تتخذ شعار: (تعاهدنا أن لا يفرقنا إلا الموت)؛ لتصبح العلاقات الهلامية والرأسمالية هي المحرك للعلاقات الإنسانية.