«الجزيرة» - أحمد المغلوث:
كنتُ فتى صغيرًا في ذلك الوقت، وحينها كان يسمح لمن في عمري بالجلوس بجانب أمهاتهم في حوض «الدمنتي» الذي تجلس فيه العشرات من النساء، عجائز وشابات وفتيات.. وكانت مشاعر الفرحة والسعادة كبيرة في حجم الأفق الذي كنا نشاهده من خلال أعمدة السيارة الضخمة. هذه الأعمدة الخشبية التي تحتضنها طبقة من الحديد، ثُبِّت بمسامير؛ وهو ما جعلها قوية ومتماسكة. أعمدة أفقية وأخرى عمودية، وبينهما فراغ. وطوال وجودنا نحن ركاب الحوض الأول الذي كان مخصصًا للنساء والأطفال كان الجميع أشبه بأسرة واحدة، على الرغم من وجود نساء زوجات لمشاهير المدينة؛ فهنا والدة وزوجة تاجر كبير من تجار المدينة، وإلى جانبها زوجة وأخت موظف في شركة النفط، وبينهما جلست زوجة صاحب مخبز معروف في المدينة.. وهكذا تنوعت وتعددت النساء والفتيات في هذا الحوض، وكانت ترافقهم وتقوم على خدمتهم سيدتان أوكل صاحب «الحملة» لهما مهمة خدمتهم ورعايتهم طوال أسابيع رحلة العمرة.
كنتُ بين وقت وآخر أسمع صوت الماء في القِرب، وصخب بعض الصناديق الحديدية المعلقة على جانبَي السيارة الضخمة وهي تهتز خلال سيرها في الطريق «الجلد» فكنتُ إلى جانب والدتي مستندًا إلى «مسند» به حشوة من «ليف» النخيل الذي كان ملاصقًا لحائط السيارة. كانت الحرارة شديدة؛ فنحن في الصيف، وسقف حوضنا تمت تغطيته بالأخشاب، وفرش «بالمداد» والبسط، وجلس فيه الآباء والأزواج وحتى بعض الفتية الشباب الذين لم يسمح لهم بالجلوس معنا. ومع ارتفاع الحرارة اضطرت بعض النساء اللاتي كنَّ يتحفظن عن كشف وجوههن إلى رفع غطاء الوجه، وحتى من كانت تضع البرقع على وجهها. وطوال ساعات السير الطويلة والمملة المشبعة بالاهتزاز بل حتى الغبار، الذي كان ينفذ من بين الأعمدة الخشبية، وبعد أن توقفت الحملة التي كانت مكونة من ثلاث سيارات، واحدة «لوري» مخصصة لحمل مستلزمات الرحلة المختلفة من خيام وقدور طبخ كبيرة وبراميل المياه، واثنتَين كانتا لحمل «المعتمرين»، اشتكت النساء من الغبار، بل صارت العباءات وملابسهن وحتى وجوههن تحمل طبقة من الغبار، وباتت وجوه بعضهن أشبه بمن يعمل في «طاحونة» ذات طبقة بيضاء كالحة. ومع مرور الوقت والسير في العاصفة الترابية راحت بعض النساء، وخصوصًا الكبيرات في العمر، يعانين من الغبار، ويطلبن من أم مبارك التي تحوَّل وجهها للأبيض متحديًا سمرة وجهها، وصارت تشبه وجوه الذين يعملون في السيرك. نعم، طلبن منها أن تصرخ في زوجها أن يسدلوا أقمشة «طربال» على جانبي الحوض. لقد أتعبهن الغبار، ودخل جوف بعضهن.. لم تتردد أم مبارك أن تتخطى رقاب وأجساد النساء والفتيات، وأن تتسلق الحاجز الخلفي للحوض منادية على زوجها أبي مبارك أن يوقف «الدمنتي»، وأن ينفِّذ طلب المعتمرات. بعد فترة قصيرة توقف موكب الحملة في أحد الأودية، وتمت تغطية جانبي السيارات، وسُمح لمن يريد قضاء حاجته بأن يقضيها. وتراكض الجميع لتنفيذ ذلك، وكان أكثر ما كان مطلوبًا خلال هذه الاستراحة القصيرة، وهو الذي سيطر على الجميع، هو غسل وجوههم وعيونهم؛ فكانت «قِرب» الماء التي كانت مشدودة على جانبَي السيارات. وأول مرة سمع الفتى كلمة «البوارح» التي عُرف فيما بعد أنها تعني رياحًا شديدة جافة، تثير الغبار والأتربة. ومع الأيام عُرف أيضًا أنها تسبب العديد من المشاكل الصحية للكثيرين. تذكَّر ذلك وهو يشاهد هذه الموجة من «البوارح» تغزو المنطقة، كما تذكر كيف كانت مجموعة من الجمال تسير الهوينا مخترقة «البوارح»، وما كانت تثيره خلالها من أتربة وغبار، وها هي البوارح تغطي أجزاء عديدة من الوطن مسببة من خلال غبارها الحساسية والجفاف ومشاكل أخرى عديدة.. اللهم ارحمنا برحمتك يا كريم ورحيم؟!