د. محمد بن إبراهيم الملحم
يحذف المعلم أحياناً بعض الأجزاء من المنهج المقرّر فلا يشرحه للطلاب، ويكون السبب غالباً أنه إما لا يتقن محتوى الموضوع (وهذا غالباً في مواد الرياضيات والعلوم) أو هو لا يتقن شرح الموضوع فيبقى عسيراً فهمه على الطلاب، فيرى أن شرحه له أمر لا طائل منه فيتركه، وقد أشرت إلى طرف من هذا الموضوع سابقاً في مقالتي هنا بعنوان «جيل التخطيط والتحديد» بتاريخ 28-12-2017 ولكن بالإضافة إلى ما حذف بهذه الطريقة فهناك حذف من نوع آخر، وهو ليس محذوفاً من التدريس في الواقع ولكن يقول عنه الطلاب: «هذي ما تجي في الاختبار»، وهذه طامة الطوام، حيث إذا انتشر بين المعلمين والطلاب هذا السلوك تضاءلت أهمية العلم والتعلّم وأصبحت الدراسة مجرد ممارسة وظيفية مطلوبة لغرض محدد هو الحصول على الشهادة ثم الالتحاق بالعمل بغض النظر عن امتلاك المهارات وتحقق الأهداف، ولهذا يتغيّب الطلاب في الأسابيع الأخيرة من الفصل الدراسي وقبيل الاختبارات لأن المادة اختزلت والأسئلة حُصرت والاختبارات شكلية والتصحيح تمرير قلم والتفوّق لا طعم له والفشل لم يعد «يفشّل»: سواء فشل الطالب في التفوق أو فشل المعلم في استيعاب طلابه وتفوقهم الحقيقي... لقد أصبحت أسابيع الاختبارات أجمل أسابيع السنة عند بعض الطلاب لأنها التي يغادرون فيها المدرسة مبكراً ويذهبون للتسكع في المطاعم والبوفيهات والكافي شوب فلا حاجة لكثير مذاكرة لليوم التالي فالموضوع «ما يستاهل»، لقد ذهبت أيام الجد وتشمير الساعد وفتح الكتاب للمذاكرة أثناء وجبة الغداء أو اللجوء للمساجد للاستذكار في جو هادئ بعيداً عن ضوضاء المنزل وحرصاً على التركيز، لقد ذهبت لجان الاختبارات (التي يقولون عنها إنه مرعبة) وجاء محلها رعب الجهل والخط الرديء والقراءة الركيكة والفهم البطيء والمعلومات الضحلة التافهة، نعم هذه كلها مرعبة لأن نتائجها إما تهور وقتل النفس في التفحيط والمخدرات أو استغلال وابتزاز وسرقة ونصب واحتيال وغش وتزوير أو تطرّف وتشرذم فكري، ولا شك أن الجهل قرين الإجرام وإهلاك النفس فلا يتصور من صاحب العلم والمعرفة أن يقع في الهلكة، لم تعد الشهادات تعني الكثير كما كانت سابقاً فهي اليوم صورة لا حقيقة.
«ما تجي في الاختبار» تنميط نفسي سلبي لكم المعرفة، واستخدام فعّال لسيف الكسل لبتر الهمة نحو تحدي الكم وتفويت الفرصة على الطالب ليتعامل معه بأسلوبه وطريقته ويعيش تجربة جدية الحياة ومصاعبها، «ما تجي في الاختبار» تلميح خفي للطالب أن الموظف (المعلم هنا) يمكن أن يغش ويغيّر ويبدل دون علم مؤسسته بما يحقق راحته أو مصلحته، «ما تجي في الاختبار» تدليل للطالب ووسيلة ترويجية لسمعة المعلم كشخصية محبوبة على حساب العلم والتعلّم ومصلحة مستقبل الطالب، بل ومستقبل الوطن، «ما تجي في الاختبار» هي مخدّر من النوع الفاخر لجذوة الطموح يروّجه المعلّمون على طلابهم كما يورّثونه لهم عندما يصبح هؤلاء الطلاب غداً معلمين في مدراسنا (كما ورثه هؤلاء المعلّمون من سابقيهم وهكذا)، «ما تجي في الاختبار» قد تكون انتقاماً نفسياً غير مباشر من معلم التعليم العام لممارسة معلم التعليم العالي (الدكتور الجامعي) والتي هي عكس ما تقرّره هذه العبارة تماماً فيأتي في الاختبار بما لم يشرح في المقرر ليثبت ذاته وشخصيته العلمية! وبين الممارستين فجوة حضارية تحتاج أطناناً من العمل الشاق لردمها، «ما تجي في الاختبار» لها نسخة مطورة تشاهد غالباً في مدارس الهجر وهي «من غير صوت»، حيث يعيش المعلم المغترب درجة من درجات الرعب لينتهي به الأمر قائلاً لطلابه الذين يغش بعضهم من بعض في القاعة بكل أريحية: اعملوا ما شئتم مغفوراً لكم، لكن رجاء لا تحرجوني فاخفضوا أصواتكم: من غير صوت»، وأنتم أيها القراء الأعزاء غادروا هذا المقال ومن غير صوت.