د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
مدخل :
** في مرحلة الصِّبا كنا نجزعُ من الصيف الذي يُخفي أترابَنا بالسفر داخل الوطن كثيرًا وخارجها قليلًا ، وكانت أغنية «سلامة العبدالله – رحمه الله - :حان وقت السفر والعين عيّت تنام/ ولّْ يا الصيف كم فرّق حبيبْ وحبيبه» دندنَتنا المفضلة، ولم نعبأْ بأن النص لم يتجه إلينا ولم يدرِ عنّا ، لكنها مرحلة الارتباط الأقوى بلِدَاتنا الفتيان ممن نساكنهم العمرَ نفسه والشجون إيّاها.
مفتتح :
** هل نحن أعمارُنا وأعمالُنا أم أن بعضَ عمرنا عمرٌ لغيرنا وكذا شطرعملنا لهم كما لنا جزءٌ من عمرهم وعملهم ؟ استفهامٌ يرتادُ مساحات القلق من اقتسام جسومنا وعقولنا مع آخرين؛ سواءٌ منهم من نود ومن لا نود؛ ففي الأولين اعتياد وفي الثانين ارتداد،وفي كلا الحالين أرق الافتراق وسوءات الشقاق ، وهل أقسى من شراكةٍ تنفضُّ مع الأقربين وأتعسُ من علاقةٍ إجباريةٍ مع الأبعدين ؟ وما حالُنا حين يطرأُ الانفكاكُ عمن نحب برحيلٍ لا نختاره والالتصاقُ مع سواهم بقربٍ يختارنا ؟! وهل قدرُنا أن نسامرَ الفناء ونهجوَ البقاء ونغتصبَ الابتسامة وتهجرَنا الدموع؟!
مسار :
** كذا تبدو الحياة لمن شاءها ومن شانأَها ، وفي مسارها تتضاءلُ مساحاتُ المشاعر وتخبو لغة الشاعر، وتتبدل المعادلات والمعاملات، وتنتصب المصالح على المسارح، وتسود الأقنعة فوق الاقتناعات، ونرى من ابتسم لنا أمس يعبسُ غدًا، ومن كان نقيًا صار شقيًا، ومن وعى عيَّ، ومن دعا ادّعى.
حوار :
** قبل الزمن الرقمي كنا نختار من نتواصل معه فنسايره ويسايرنا، ونعتب عليه ويعاتبنا، ونطمئن إلى قلبه ويُطمئننا بقربه،ومعه وبعده صرنا نتحاور مع وسومٍ دون رسوم،وشخوصٍ بلا نصوص، وحكاياتٍ ليس لها من يَرويها بصدق ويُرويها بعشق، وبتنا حاسري الوجوه أمام رؤوس مربعة طولُها عرضُها ومقدماتها أقفيتُها تتشكل كالزئبق وتُعتم كما الكهوف.
مصير :
** مع الزمن تنطوي أعمالٌ وتتبعثر آمال، وقد نظنُّ العناق سجالًا والفراق محالًا فإذا القربُ مسافة فصل والرحيلُ حكاية وصل.
منحنى :
** مبتدأُنا صداقاتٌ فطرية مكوناتُها أواصرُ ذاتُ مفاهيم تلقائية تُزهرُ علائقَ قد نغفو دونها أو نغفل عنها ، وتمضي بنا المراكب فننساها، ويرسو بنا خريف العمر فنسلو بها لنجد أنها الأنقى والأبقى ، وتحملنا هواجسُ الذاكرة لنستعيد من مرّ من البشر وما عبر على الحجر، وتصدمنا فوارق التوقيت حين بكَّرنا قليلًا أو تأخرنا قليلًا فلم نسعدْ بمن شئنا ولم نُؤنس من شاءُونا.
مختتم :
** تحتوينا إشراقات الصبا عجلى، وتنتظرنا انطفاءاتُ الكهولة وئيدة؛ وفي الأولى انتظار الحلم، وفي الثانية مواجهة الحقيقة، وفي كليهما مراجعاتٌ وتراجعات، وما يفوت الخطواتِ الأولى تستوعبه الخطواتُ الأخيرة؛ فمن يدَّكر؟!
إذن :
** الحياةُ دوارٌ وخطوتان.