ياسر صالح البهيجان
ظلت الأمم والشعوب فقيرة باستمرار حتى بداية القرن الثامن عشر، قبلها لم تكن إمكانيّة توفّر فرصة وظيفيّة ذات عائد مالي مجزٍ متاحة أمام البشّر؛ لأنه ليس ثمة دورة اقتصاديّة تحقق النمو والازدهار. معظم الناس يعملون مقابل ما يسد جوعهم، وعندها أيقن الساسة في أوروبا بأن الحل يكمن في تغيير ثقافة المجتمع نحو التفكير في الكماليّات، وسمحت بمنح السكّان سيولة نقديّة تجعلهم قادرين على التسوّق بعيدًا عن احتياجاتهم الأساسية، وأوّل ما ظهر من السلع كان المشط والمرآة ومجموعة من الملابس الرئيسية والوسائد وبعض الأحذية والمناشف.
اتجه السكّان فعلاً نحو الإنفاق على تلك السلع، وهو ما أحدث دورة اقتصاديّة غير مسبوقّة في تاريخ البشريّة، وكلما زاد إنفاقهم زادت الكماليّات تنوعًا وارتفع عدد المتاجر وارتفعت أيضًا أجور العاملين فيها، وأصبح التجّار يطرحون فرصًا للعمل بمبالغ باهظة مدعومة من القرار السياسي ليزداد المجتمع تعلقًا بالثقافة الاستهلاكيّة الجديدة، والتي أنتجت بعد عقود مفهوم الموضة في الألبسة وقصّات الشعر ومستحضرات التجميل.
أحسّ أفراد المجتمع بأن السلع الكماليّة لم تعد حكرًا على الأغنياء والطبقة المترفة كما كان في السابق، وعدّوا ذلك نوعًا من العدالة الاجتماعيّة والمساواة بين مختلف الطبقات الاجتماعية، رغم أن الكنيسة كانت تتخذ موقفًا معاديًا من تلك الثقافة بوصفها تهمل الاهتمام بالروحانيّات وصلة الإنسان بربّه، وأطلقت فتواها الشهيرة للحد من الاستهلاك بقولها «إن الله لن يرحم أولئك الذين أنفقوا أموالهم على زينة منازلهم ولم ينفقوها لسمو أرواحهم».
الموقف الكنسي من الثقافة الاستهلاكيّة انطلق من كون الأخيرة خطيئة تهدم القيم الإنسانيّة الفاضلة، وتجعل الفرد مستعبدًا لشهوته الشرائيّة وغافلاً عن تنقية روحه من الخطايا، ولكنّ المجتمع لم ينصت لها؛ لاعتقاده بأن الكماليّات أوجدت له واقعًا اقتصاديًا جديدًا ونموًا في معدلات الأجور، وردمّا للهوة بينهم وبين الأغنياء. كان يرى في الاستهلاك فضيلة، ويرى في رأي الكنيسة تعنتًا ومحاولة تعطيل لمرحلة الازدهار التي يعيشها.
السياسيون الأوروبيون دعموا المفكرين والنخب المثقفة لمجابهة الرأي الديني الذي شكّل تهديدًا لحالة النمو الاقتصادي في بلدانهم، وأطلق الطبيب البريطاني بيرناند ماندفيل مصطلح «التسوّق للمتعة»، وحثّ أفراد المجتمع على جعل الشراء جزءًا من الاستمتاع الفاضل، بل وأيضًا ركيزة لاستقرار النفس وعلاجًا لأمراضها الروحيّة، وقال «إن الانفاق على الكماليّات يجعل الدولة غنيّة، وإن كانت كذلك ستكون آمنة، صادقة، سخية، مفعمة بالحيوية وقوية».
لم يتفق عدد ليس باليسير من المفكرين مع ما اتجه إليه ماندفيل، واعتبروا رأيه متطرفًا، ومن بين أبرز من عارضوه الفيلسوف السويسري جان جاك روسو الذي صُدم من تأثير الثورة الاستهلاكية على الأخلاق والقيم، ونادى إلى العودة لطريقة الحياة الأبسط والأقدم تمامًا كتلك التي عاشها في قرى جبال الألب أو قرأ عنها في كتابات المسافرين من القبائل الأصلية في أمريكا الشمالية، ولكنه رغم ذلك أقرّ بمسألة جوهرية، وهي أن نماء المجتمعات اقتصاديًا لا يمكن له أن يتحقق دون استهلاك للكماليّات، معبرًا بأسف بأن الاكتفاء بالإنفاق على الاحتياجات الأساسية سيعيد الناس إلى الفقر مجددًا.
وحاول المحلل الاقتصادي آدم سميث في كتابه «ثروة الأمم» 1776م، مقاربة الثقافة الاستهلاكيّة من منظور مختلف، إذ يرى بأن الإنفاق على الكماليّات خطيئة ينتج عنها فضيلة، ويعتقد بأن ذلك النوع من الشراء ساعد الفقراء ووفر لهم فرص عمل لم تكن لتتحقق لولاه، لكنه كان يأمل بأن يحمل المستقبل نماذج استهلاكيّة عقلانيّة يمكنها الموازنة بين الاستهلاك الأعمى والنمو الاقتصادي.
وعلى بعد ثلاثة قرون من الجدل حول أثر الثقافة الاستهلاكيّة على أخلاق المجتمع من جانب ونمو اقتصاده من جانب آخر، نجد أن التساؤل لا يزال مطروحًا، بين تيارين رئيسيين أحدهما ديني والآخر دنيوي، ورغم ذلك يبقى المجتمع محافظًا على رغبته في الإنفاق بعيدًا عن موقف الطرفين منه، وبعيدًا عن كونه فضيلة أو خطيئة ما دام الإنفاق بسخاء يوفّر له المزيد من إمكانات العمل وارتفاع الأجور والازدهار الاقتصادي والمتعة الحياتية.