عبدالعزيز السماري
دوماً ما يود اللبناني من الجنسين في أن يكون على آخر صيحات فنون الإتيكيت، سواء في اللبس أو التعامل أو في تسريحة الشعر أو عند تنسيق مائدة الطعام، لكن عندما يكون الأمر في السياسة تنقلب تلك الصورة الجميلة والأنيقة إلى أساليب ومشاهد أقرب إلى أدغال إفريقيا..
تبدو صورة الغابة في ذلك المشهد الذي ظهر في الإعلام بعد الانتخابات الأخيرة، فأنصار حزب الله اجتاحوا بيروت يرفعون أعلامهم وعلامات الانتصار بعد فوز ممثلين لهم في العاصمة التي كانت دوماً محسوبة على التيار السني في لبنان، فالديموقراطية في لبنان ليست كالديموقراطيات المدنية في العالم الآخر، لكنها أقرب لديموقراطية الاقتتال والدم بين أحزاب أقرب للقبائل أو الإقطاعيات الصغيرة، وتستمد قوتها من الأقاليم التي تقوم عليها.
ولهذا يُعتبر أي تقدّم للحزب أو القبيلة الطائفية إلى مناطق جديدة، بمثابة الفتح وضم مناطق جديدة للإقليم الطائفي، وهو ما يجعل من الديموقراطية في لبنان برميل بارود قد ينفجر في وجوه اللبنانيين في يوم ما، فالتنافس هناك ليس حول المستقبل والتنمية والمشاريع الاقتصادية، ولكن إقطاعي طائفي، ويؤدي في نهاية الأمر إلى حرب أهلية مدمرة.
ليست الأحزاب السياسية في لبنان ممثلاً قانونياً عن الحراك السلمي المدني، ولكن كيان قائم بذاته، وله سلطة وإقليم وجيش ومخابرات ومخازن أسلحة وأجهزة اتصالات، وتقوم علاقته مع الأقاليم الأخرى على مصالح الحزب وأيدولوجيته، والتي عادة ما ترتبط بدول خارج البلاد، وتُدار بالريموت كونترول..
إذا أردنا أن نفهم البعد الثقافي للديموقراطية، فعلينا تأمل تطبيقاتها في السويد على سبيل المثال، والتي تقدم صورة متحضرة للديموقراطية، وتقوم على بعد الأحزاب عن التبعية الأيدولوجية أو الترويج لأفكار تؤثّر على وحدة البلاد، ولا تسمح لاستخدام الاختلافات الثقافية والعرقية والدينية كمحور للخطاب السياسي، فالانتخابات تدور حول الهم الاقتصادي والاجتماعي وتعزيز الحقوق الإنسانية.
لهذا عندما نراقب تطبيقات الديموقراطية في لبنان وفي الكويت أيضاً، سنجدها تقوم على مبادئ أقرب لعملية «صب الزيت على النار»، فالانتخابات تقوم على الإرث الماضوي الذي لا يخلّف إلا الدمار والهلاك للمجتمع، وهما ثنائية الطائفة والقبيلة، وهو ما يفسر ذلك الضجيج السياسي الذي أقرب إلى الجعجعة التي بلا طحن..
ما يثير الأسئلة حول هذا الواقع هو أن هذين البلدين الجميلين يزخران بإرث ثقافي مميز، وقدّما خلال العقود الماضية رموزاً لهم أطروحات ثقافية متقدِّمة، لكنهما مع ذلك يتداولان الديموقراطية من خلال أمراض الماضي ونزاعاته وعلله التي مزَّقت الواقع العربي وما زالت تصيبه في مقتل..
من أهم أبجديات الديموقراطية سيادة المجتمع المدني، والتنافس في العمل حول قيم وأهداف مشتركة، لكن المجتمع السياسي في لبنان يقوم على التنافس حول مصالح وأهداف لدول أخرى، وليس لمصلحة لبنان والشعب اللبناني، وهو ما يتطلب اتفاق الأحزاب السياسية على تطوير العمل المدني على الرغم من استحالة هذه الخطوة في هذه الأجواء السياسية الملغومة بمصالح الدول الأخرى..
الديموقراطية نتيجة عمل حضاري وتطور ثقافي اجتماعي، وتحتاج المجتمعات الشرقية لأن تتطهر أولاً من الصراع الأيدولوجي والقبلي، وأن تتأهل مدنياً لتلك المرحلة المتقدِّمة من العمل السياسي، ولا يمكن أن تكبر وتتألق في مجتمعات تكفر بعضها البعض، وتخون بعضها البعض..
التجارب الناجحة في الديموقراطية في دول النمور الآسيوية قامت بعد ثورات متعاقبة في التنمية والتعليم، وتحول ميدانها إلى تنافس على تقديم البرامج الاقتصادية، وتخلو مخازن الأحزاب السياسية في تلك البلدان من الأسلحة والمدافع ومن مندوبين لدول مجاورة..