د. جاسر الحربش
تفاعل الجهاز المناعي ضد الجسم الغريب عند الإنسان والكائن الحي عموماً شديد الشبه بما يحصل في المجتمعات البشرية عند تعرضها للغزو من غرباء. يتفاعل الجسم البشري مع الأجسام الغريبة بتنشيط كل مكونات وزارة دفاعه (جهاز المناعة) فإما أن يموت بانهيار المناعة أو يتغلّب على الغزو الغريب فيزداد مناعة وحصانة. عندما يكون الغزو مفاجئاً وكاسحاً والجسد المغزو ضعيفاً، فالأرجح أن يستولي الغازي على تلك الكتلة المسماة الجسد البشري. الاحتمال الآخر يحدث عندما يحصل الغزو بالتقسيط والغازي ليس بتلك القوة الكافية. عندئذ يحصل ما يُسمى بتصاعد التحصين المناعي فيتم التغلّب على المهاجم الغريب، وهذا التفاعل يشبه التطعيم الطبي بالميكروبات المعالجة بالمختبرات قبل حقنها بالجسد البشري لتحفيز الجسم على بناء المضادات المناعية والاحتفاظ بها في الذاكرة للمستقبل.
منذ عام 1979م يتعرّض العراق لمحاولات الإنهاك الإيراني بالتقسيط، بالتسلّل وتحفيز الخلايا النائمة بالتنشيط المذهبي للجماهير الشيعية الجاهلة وبشراء ذمم السياسيين الفاسدين بالأموال. خدم المحاولات الإيرانية لاختراق أجهزة المناعة العراقية قبل أي عامل آخر غياب الإدراك للنوايا النهائية الاستحواذية للغزاة وتوافقها مرحلياً مع نوايا غزاة آخرين قدموا من خارج المنطقة بالكامل. في البداية كان التهديد بتصدير الثورة الإسلامية الشيعية من إيران إلى الجوار بدءاً بالعراق، وكان ذلك بصريح التحريض الإعلامي وبالتمويل، فاستعرت حرب الخليج الأولى ولكن هزم الغزاة. فيما بعد حدث التسلّل الإيراني الثاني كطفيلي متزامن مع الغزو الأمريكي البريطاني الإسرائيلي، فلم يستطع جهاز المناعة الصمود وانهار العراق وتفكك إلى عرب شيعة وعرب سنة وكرد وبعض الفتات التركماني والإيزيدي والمسيحي الآشوري، أي تحول إلى شظايا متناثرة.
للأسف الشعوب الجاهلة لا تتذكر التاريخ، ولنأخذ الكرد على سبيل المثال. هؤلاء القوم الجبليون الأشداء تواقون عبر القرون لبلوغ دولة كردية مستقلة، وكانوا يستطيعون الحصول عليها في مرحلة القادة الكرد العظام أسد الدين شيركون وابن أخيه صلاح الدين، لكن أولئك القادة كانوا يعرفون أن طبائع الكرد القبلية المتناحرة لا تصلح لبناء دولة، بالإضافة إلى كونهم مسلمين خلصاء أدركوا عبث وخطورة انفصام الكرد عن العرب والمكونات الأخرى في العراق والشام ومصر.
أما الشيعة العرب في العراق فتحولوا إلى ضحايا لغسيل أدمغة ضد إخوتهم العرب السنة، غسيل صبته في آذانهم مرجعياتهم الدينية، وإلا فهم كانوا يرون ويسمعون حقيقة أن العرب السنة تعرضوا لنفس العسف الدكتاتوري الذي تعرضت له كل طوائف العراق.
والآن، ما هو المتوقّع بعد احتكاك الجسد العراقي وتعرفه بالالتحام المباشر على الأجسام الغريبة التي تسلّلت إلى داخله وحاولت تحطيم أجهزته الدفاعية؟ المتوقّع هو ما نرى ونسمع بوادره الآن، مظاهرات وشتائم وتحقير لعملاء إيران من سياسيين ورجال دين، ومؤشرات على قرب ثورة شعبية عارمة في العراق ضد التركيع والتجويع. هذا هو بالضبط ما يحدث للجسد البشري من استنفار أجهزته المناعية ضد أجسام غريبة. في البداية تكون الحمى والهذيان والهزال، ثم تبدأ المضادات المناعية بتفتيت والتهام الأجسام الغازية، فيتعافى الجسد وتعود أعضاؤه إلى التماسك والتناغم.
أقول لكم جازماً سوف يتعافى العراق ويطرد الغزاة ليعود صلباً قوياً كما عهده العرب عبر التاريخ، وإذا تعافى العراق تعافت سوريا ولبنان بفعل الحاجز العراقي كما كانت في السابق.