فوزية الجار الله
(ولكنني حين أعانق جدي أحس بالغنى، كأنني نغمة من دقات قلب الكون نفسه، إنه ليس شجرة سنديان شامخة وارفة الفروع في أرض منَّتْ عليها الطبيعة بالماء والخصب، ولكنه كشجيرات السيال في صحاري السودان، سميكة اللُّحى حادة الأشواك، تقهر الموت لأنها لا تسرف في الحياة...)
وردت هذه السطور ضمن رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للروائي الراحل الطيب صالح.. قرأتها منذ فترة وبقيت هذه الكلمات في ذاكرتي..
إن كنت عربياً أصيلاً فلا بد أن تجد نفسك ضمن هذا المدار.. بل لعلي أقول إن كنت مسلماً تؤمن بالله وتؤدي صلواتك الخمس تجاه كعبة المسلمين فلا بد أن تجد نفسك ضمن هذه الدائرة الحميمة.. منذ طفولتك، منذ خطوت خطواتك الأولى أدركت بعمق بأنك أسعد كائن على وجه الأرض فلديك أم تحنو عليك، تهتم بك وتحتويك بدعواتها النورانية صباح مساء، وهناك أبٌ يغضب لأجلك يحتويك بجناحين من نور ويدلك دائماً إلى الطريق الأصوب والقمة الأجمل ويتمنى دائماً لو يراك متصدراً الصفوف الأولى.. وأيضاً لديك أشقاء وشقيقات يشبهونك في كثير من الملذات اليومية الصغيرة وأيضاً يشاركونك الألم والحزن إن صادفاك يوماً وما أكثر ما يتعاقب عليك هذان الضدان، الحزن والفرح.. وأيضاً ثمة شبكة أخرى حميمة تمتد عبر الأم أو الأب، هم الأعمام والأخوال، العمات والخالات وما عداهم، كل أولئك يمثّلون مجتمعاً خاصاً حولك، هم الذين لا بد أن تتواصل معهم وتبذل الكثير لأجل إسعادهم وتكريس الانتماء إليهم.. هذا ما ندعوه بالخصوصية التي تميزنا مسلمين وعرباً، وفي تراثنا العربي الكثير من الأمثلة منذ عهد الجاهلية على سبيل المثال ذلك الحب النادر الذي أكنته الشاعرة الخنساء لأخيها صخر فحزنت عليه وبكت كما لم تبك امرأة.. لا مانع من بناء الذات وحمايتها لكن لا بد من تذكّر الآخرين وبخاصة أولو القربى وهو ما ندعوه حسب عقيدتنا وقيمنا الدينية بـ «صلة الرحم»..
ذلك الإحساس بالثراء والغنى الذي تمنحك إياه صلة الرحم والتواصل مع الأقارب أعلى وأسفل، بمعنى من يكبرونك سناً أولئك الذين سبقوك بوجودهم في هذا العالم أو أولئك الذين يصغرونك، أولئك الذين سبقتهم أنت..
تمر الأيام وتستغرقك الأحداث، كلما كبرت شعرت بكثير من التشبث بتلك الدائرة
الأصغر المدعوة بالعائلة وكأنما هي قدرك، ولا بأس في ذلك، لكن البأس الذي ربما يقود إلى الفشل يوماً هو أن تشغلك تلك الدائرة عن ذاتك وعن بناء مستقبلك وعن السير بخطى ثابتة تجاه طموحك، أن لا تستطيع التحكم بعواطفك لتجد نفسك قد منحت الوقت والعاطفة وكل ما تملك لهم وفي النهاية لا تجد نفسك.
شيء من التوازن لا بد منه ما بين التواصل معهم بالقدر الذي يمنحك وإياهم سعادة مشتركة دون أن يكون في ذلك عثرة تجاه طموحك.