د. حسن بن فهد الهويمل
أعدت قراءة بعض العبقريات للعقاد، وبخاصة [عبقرية عمر] وأنا بصدد إعداد كتاب، أرجو أن يرى النور في قادم الأيام، متى شاء الله، ويسَّر.
وكلما قاربت فكر العقاد ازددت فيه إعجاباً، وإكباراً، ورغبة في إعادة قراءته، على سننه:- [لئن تقرأ كتاباً ثلاث مرات، خير من أن تقرأ ثلاة كتب].
العقاد يَقْدمُ الأدباء، والمفكرين في مقروئي. ولربما يكون الوحيد الذي صحبته على مدى ستة عقود، أقرأ له، وأقرأ عنه.
ومع كثرة الدارسين: المعجبين، والخصوم إلا أنه لم ينل ما يستحقه، وقليل من الدارسين من أنصفه.
أنا لست مع المدَّاحين، ولا مع الموالين المتعصبين المصنمين، ولا مع الملغين لأنفسهم في عوالم الآخر. أنا مع الحق، وفق تصوري، أدور معه حيث دار.
[العقاد] قامة أدبية، وفكرية، يصلح وسيطاً بين الحضارات في حواراتها. وتصديه للفكر الغربي الصليبي الحاقد، والفكر الشرقي المادي الملحد يتسم بالمعرفة، والندية، والشموخ.
لا يتعالى كالدخان، ولكنه لا يتطامن ضعةً، ولا تواضعاً، يعرف ما له، وما عليه.
ويرى أن حضارة الإسلام تقدّم كل الحضارات، بل تؤسس لها بشموليتها، وإنسانيتها، وأخلاقيتها.
[العقاد] حين نقاربه بفكر [سلفي] نقي، لانجد عنده مرادنا. ولكنه لا يصدمنا. فهو لا يكتب مواعظ، ولا يلقي أحكاماً، ولكنه يحلّل، ويفنّد، ويقوَّم، ويؤرِّخ. وغبش العقلانية المتململة من إسار النص، لا يشطح به، ولا يقلّل من أثره. ولا يَندُّ به عن المقتضيات، والمقاصد الإسلامية.
[العقاد] يعتز بفكره العربي الإسلامي، ويجالد، ويجاهد من أجل انتزاع حقه في مشاهد الفكر، والسياسة، والفلسفة العالمية.
ومنطلقاته معرفية عقلانية متوازنة، إذ لا مجال عنده للعاطفة الجياشة، التي يمثّلها [الرافعي].
ولا العقلانية المضطربة المنبهرة بالغرب التي يمثّلها [طه حسين].
ولا للتراثية المتعصبة، المصادرة لحق الآخر، التي يمثّلها [محمود محمد شاكر].
ولا للعقلانية الاعتزالية التي يمثّلها [أحمد أمين].
إنه خطاب متوازن، يعطي لكل ذي حق حقه.
هكذا كان [العقاد] مع الفكر المخالف، يفري، وقد لا يُفرى فريه، يستكنه، ولكنه لا يستسلم، يفر من تأطير الذات، والتمذهب.
من هنا أحببت فكره، وتحفظت على شيء من سيرته. حتى لقد تصورت إسلامه من باب إسلام الفكر، والانتماء، والاعتزاز بالعروبة، والإسلام. شأنه في ذلك شأن الكثير من المفكرين كـ[أحمد أمين] كما يروى أحد أبنائه العققة المارقين.
العقاد ليس عالم فقه، ولا حديث، ولا تفسير، بحيث نتعامل معه من خلال شيء من ذلك.
والعقاد ليس داعية، ولا واعظاً، إنه مفكر حر، يرفض الانتماء المتعصب. وكبرياؤه أدخلته في دائرة الصلف، والتعنت، ولكنه صلف المقتدر، وتعنت المؤمن بما يقول.
أنا من المعجبين به، المكبرين لفكره، لا لأنه معصوم، لا يخطئ، بل لأنه المفكر الأجدر لمنازلة سائر التيارات الفكرية، المناوئة للإسلام، وبخاصة في عصر الانكسار العربي.
كتبه كلها تشكل منظومة فكرية، أقل ما توصف به أنها جبارة، ومُشَرِّفة. لا تنحني لأحد، ولا تسلم لفكر، ولا تتطامن أمام أي رؤية.
لقد سيئت وجوه الشرفاء من ثقافة الانبطاح، لمجرد أن المسلمين تخلفوا، وتقدم غيرهم، والخطيئة المزرية تَحْميل المبادئ إخفاقات المنتمين إليها.
سُئل بعض المفكرين عن تخلف وعد الله بنصره للأمة، وتغلب الفكر المخالف.
فقال: وعْد الله للمؤمنين، وليس للمسلمين، والأمة اليوم تعيش إسلام الأعراب، ولا تؤمن إيمان الأصحاب: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا..}.
إذاً الخلل ليس في الفكر الإسلامي، ولكنه في المفكرين الإسلاميين، الذين وهنوا، وحزنوا، وهمُ بالإيمان لو امتثلوا مُحَقِّقاتِه الأعلون.
[العقاد] وضحت رؤيته، وامتازت منطلقاته. يؤمن بـ[الوحيين] بوصفهما مصدري القوة، والندية، ولا تأسره النصوص الرديفة: التفسير، والشرح.
لقد تعَمَّد تثوير العبقريات الذاتية، وتناولها من خلال [مناهج علم النفس] لإثبات العبقرية العربية، والعبقرية الفردية.
وهو إذ خص الأقدمين بها، فقد جاء تناوله للمتأخرين بما لا يقل عمّا أعطاه للأقدمين.
لقد كتب عن شخصيات سياسية كـ[سعد زغلول]، و[الملك عبدالعزيز]، مُبْدياً إعجابه، وإكباره لمخايل النبل، والذكاء، والزكاء.
[العقاد] جبارٌ بذاته، وبِفكْره، فهو لا يمنح إعجابه، وإكباره إلا لمن يستحق ذلك.
لقد رفض الزواج لأنه يسلبه شطراً من حريته.
ورفض الوظائف الحكومية لأنها تسلبه كل الحرية.
ورفض التَّعْليم النظامي، لأنه يسلبه حرية القراءة.
لا نتفق معه في كل ما يذهب إليه، ولكننا نكبر فيه الأنفة، وكبرياء الاعتزاز، لا كبريا الغطرسة.
إننا في عصر الخنوع، والاستسلام، وإلغاء الذات أحوج ما نكون إلى مثله. فكر العقاد، ومنهجه في التعاطي مع المستجدات هو الأجدى، والأهدى. والأنسب لهذا العصر.
ظلمه [الرافعي] وأشياعه، وتجنوا عليه، و[الرافعي] لا يبْلغ مُدَّهُ، ولا نصيفه. [الرافعي] صانع كلمة، و[العقاد] صانع فكر. و[الرافعي] عاطفيٌ يُثْني، و[العقاد] عقلاني يحلّل.
[الرافعي] متحمس يَدَّعِي، و[العقاد] رزين يبرهن. صوت الوافعي وعظي، وصوت العقاد حجاجي.
ولأن [سعد زغلول] أعجب بأسلوب الرافعي، وبفكر العقاد، فقد تناوش الاثنان لكسب [سعد] بوصفه رجل المرحلة.
وحين قال [سعد زغلول] عن أسلوب الرافعي:- [إنه تنزيل من التنزيل] وهي مقولة مجازفة، ثارت ثائرة [العقاد] فوصف حديث الرافعي عن الإعجاز البياني للقرآن بأنه يصلح موعظة للعجائز.
بهذا ثارت ثائرة [الرافعي] وظاهره الملحد [إسماعيل مظهر] وفتح له [محلة العصور] ليقول عن [العقاد] منكراً من القول، وزوراً.
[مظهر] لا يخاف من [الرافعي] لأنه يكتب بعاطفة المتصوف. ونزعته الإلحادية لا تؤثر عليها بلاغةُ [الرافعي].
خوفه من فكر العقاد، لأنه يخاطب العقل، ويناكف الفكر الغربي بندية، واقتدار. ومن ثم فهو الأقدر على التأثير. والتصدي للإلحاد، والاستغراب.
لا [الرافعي] ولا [العقاد] متدينان تدين سلوك. [الرافعي] صوفي قبوري وغَزَلِي مكشوف. متصالح مع [إسماعيل مظهر] الملحد، ومع [محمود أبو رية] المتمرد على الثوابت. ومع [مي زيادة] المتآمرة على الفكر، والأخلاق السوية.
فذاك صديقه، وهذا تلميذه، وتلك عشيقته التي أباح بعشقه لها في عدة كتب.
رحم الله العقاد، والرافعي، لقد أشغلا بخصومتهما الجائرة مشاهد الفكر، والأدب. وذلك بتجييش الموالين لكل منهما، ولولا عناد الرافعي، وصلف العقاد لخمدت المشاهد، وصوح نبت الفكر، والأدب فيها.