د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
نستغرب عندما نسمع أن دولاً كثيرةً تدفع أموالاً للعاطلين أو مساعدات للأسر الأقل دخلاً، ونعتقد أن ذلك باب من أبواب الهدر، أو ضرب من ضروب الترف، أو صرف أموال غير مستحقة. غير أن الدول التي شرعت في مثل ذلك فعلت ذلك بعلم ودراية، وهي أكثر الدول تقدمًا وأكثرها ترشيدًا للمال، وتولي الدراسات والتغيرات الاجتماعية الاهتمام الأكبر كمفتاح للاستقرار والنجاح.
دول العالم الثالث بالمقابل لا تولي اهتمامًا بجوانب التغيرات الاجتماعية إما لضعفٍ في التخطيط أو لعدم الاكتراث. وهي تفاجأ بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية مع أن هذه الأزمات بطبيعتها تتطور ببطءٍ وتأخذ وقتًا طويلاً لتتفاقم وتصبح خطيرة. وأموال البطالة أو أشكال المساعدات الأخرى، كمساعدات السكن والأطفال للمحتاجين ينظر لها على أنها أقل كلفة من الاضطرار لعلاج الأمراض التي قد تترتب عليها كالسرقة، أو الجريمة، أو الأمراض النفسية.
الدول التي يقل فيها الفقر والعوز هي دول على وجه العموم مستقرة وتصرف جزءًا يسيرًا من دخلها العام على حفض الأمن الداخلي، وتصرف أقل أيضًا على السجون وأجهزة المراقبة والمصحات النفسية. وتعد دول أوروبا الشمالية، الدول الإسكندنافية، أفضل الدول في هذا المجال، حيث تحولت السجون فيها لمطاعم ومتاحف لقلة المساجين أو انعدامهم. وقد احتفلت النروج قبل أيام بإغلاق آخر سجن لعدم وجود مساجين، وهنا نستطيع أن نذكر الأمن والأمان الذاتيين.
الدول الإسكندنافية دول اشتراكية ديمقراطية تعتمد على حفظ التوازن الاقتصادي وحسن توزيع الثروات بين المواطنين. والاشتراكية فيها تختلف كثيرًا عنها في دول أوروبا الشرقية أو الاتحاد السوفيتي، حيث تسيطر الدولة على كل شيء. فالدولة لا تملك وسائل الإنتاج والإدارة غير مركزية، وهناك حرية اقتصادية تقارب الحرية في الدول الرأسمالية، إلا أن المصلحة الاجتماعية للكل تُغلّب على مصلحة الأفراد. والأولوية في التخطيط والقرارات توجه دائمًا لرعاية المواطن وسد حاجاته الأساسية صحة وتعليم وسكن. بينما تعد الولايات المتحدة الأمريكية، مثلاً، حيث توجد ما وصفه سولجنستين بالرأسمالية المتوحشة، من أعلى الدول في نسبة الجريمة، وفي حركات الاحتجاج، وفي تعاطي المخدرات وبها أكبر نسبة من المساجين لعدد السكان وتبلغ سبعة أضعاف جارتها كندا الأكثر شبهًا بها اقتصاديًا واجتماعيًا. ورغم وجود نظام واسع لدعم العاطلين عن العمل في أمريكا فهي تفتقر لنظم الرعاية الاجتماعية الأخرى؛ ويقدم فيها المال على الإنسان، وعقوبة التعدي على الممتلكات أكبر من عقوبة التعدي على الأفراد.
لا سبب بالطبع يجيز الجريمة أو السرقة أو الاتجار في الممنوعات، وبالمقابل، لا أحد يولد مجرماً. فقد أثبت العلم خطأ الاعتقاد السابق بأن للعنف والجريمة أساً بيولوجية، فالإنسان يتصرف حسب ما يمليه عليه عقله الذي هو مجموعة أفكار لها أساس سيكولوجي اجتماعي. أفكار يمليها المجتمع وتخلقها الظروف. وقد وُجد ترابطٌ كبير بين سوء توزيع الثروة في المجتمعات ومعدل الجرائم فيها. وعزز ذلك ربط بعض القيم الاجتماعية بأمور مظهرية أساسها المال والاستهلاك وليس التحصيل أو الأخلاق. ووجود أنماط استهلاكية تُعيب على الطبقات الأقل حظًا عدم امتلاك بعض البضائع الاستهلاكية. والمجتمع الاستهلاكي اليوم لا يكتفي بتلبية حاجات الإنسان من المنتجات، بل يخلق له، بتأثير وسائل الإعلام والإعلان الضخمة، حاجات جديدة، كمالية وليست ضرورية. فتعقدت حياة الإنسان وزادت حاجاته. ولذا ربما نستطيع القول بأنه في أحيان كثيرة تكون الحاجة، سواء الحاجة الاضطرارية: أكل، علاج، تعليم، سكن؛ أو الحاجة الاستهلاكية الكمالية: سيارة، بضائع ماركات معينة، هي أم الفساد والإفساد.
سد حاجات الإنسان الأساسية، إما بالمساعدة المباشرة، أو توفير العمل له أفضل بكثير من حيث الجدوى الاقتصادية، من علاج الأدواء الاجتماعية التي تترتب عليها. وتعد أكثر الحاجات الدافعة للتصرف بأي أسلوب متاح ولو كان ذلك خارج النظام والقانون، هي الحاجة لرعاية الأطفال والأسرة. ولذا تركز معظم الدول على تخصيص مساعدة لكل طفل جديد ليس فقط لأسباب إنسانية، كما يتخيل البعض، وإنما لتخفيف الضغط على والديه حتى لا ينجرفا لأعمال غير مشروعة تكون في نهاية الأمر أكثر كلفة اقتصاديًا واجتماعياً. فالعاطفة الأسرية جارفة ولا يوجد مهرب منها في عالم الواقع. ونحن اليوم في طور خلق اقتصاد جديد، اقتصاد غير ريعي وهو أمر رائع، ولا شك أن الجهات المسؤولة قد وضعت نصب عينيها سد حاجة المواطن عبر حساب المواطن، فليت يضاف له مساعدة للأطفال مباشرة أو عينية، كالتخفيض الضريبي، أو المساعدة على توفير الحليب وغيره بشكل مخفض لأصحاب الدخول المتدنية والعاطلين عن العمل.