هنالك ثلاثة أمور أساسية كان الملك عبدالعزيز لا يقبل فيها أي جدل أولها العقيدة ودفاعه عنها وتمسكه بها، وعدم المساس بها، والثاني الأمن الذي استتب بإقامة العدل وتحكيم كتاب الله والحفاظ على حقوق الناس ودمائهم وأموالهم وأعراضهم، والثالث دقة اختياره لرجاله الأفذاذ والذي برهن على براعته وبعد نظره في حسن انتقائه لرجاله الذين ساهموا معه في جهاده لتوحيد كيان المملكة العربية السعودية قبل حوالي مائة عام ونيف ولعل أسرة (آل جلوي) أبناء عمه خير من تمثل وفي وقت مبكر من تأسيس الدولة السعودية الحديثة في قوة الانتماء والولاء، والسمع والطاعة ليكونوا في مقدمة الصفوف الأمامية في معارك التوحيد والتأسيس والبناء والإمارة منذ اجتمع شملهم مع الإمام عبدالرحمن الفيصل آل سعود في مخيم آل جلوي بـ«التوضيحية» بعد فراق طويل فرضته عليهم ظروف الحياة الخشنة والقاسية، وشظف العيش وقلة الموارد، فكان موقف اللقاء والتشاور بصدق التوجه وعزيمة الرجال وسمة الوفاء وإقدام الشجاعة وسلامة النوايا فتعاهدوا على المصير الواحد ووحدة الهدف ما بقي لهم من أعمار والوفاء من كبيرهم وصغيرهم، فكان الصدق عنوانهم، والتضحيات مواقفهم، والشجاعة ديدنهم، والنزاهة سجيتهم، والإمارة عملهم منذ المقولة التي صرح بها الأمير عبدالله بن جلوي للإمام عبدالرحمن عندما قال له: «يا ولد عمي حنا عصاك اللي ما تعصاك، ومعك بخير الدنيا وشرها، كبيرنا وصغيرنا ولا يفرقنا عنك غير الموت بعون الله» فكان هذا ميثاق عمل وشرف وتضحية لأمراء آل جلوي، فصدقوا ما عاهدوا الله عليه فكانت صفحات التاريخ تسطر لهم صفحات مشرقة وباهرة من مواقف البطولة والشجاعة والعمل، بجسارة متناهية ومهابة ضرب بها المثل فكانوا عصابة رأس الملك المؤسس عبدالعزيز وسنده بعد الله، ومحل ثقته ومشورته، ولقد كان من أوائلهم من امتاز بالصفات القيادية والحكمة والحنكة النافذة وبعد النظر وكانوا مع الإمام عبدالرحمن -رحمه الله- عند خروجه من الرياض ثم بداية هجرته أول مرة ثم إقامتهم في الكويت وكان ممن معه من أسرة آل جلوي الأمير عبدالله بن جلوي، ومشاري بن جلوي، ومساعد بن جلوي، وفهد بن جلوي، وسعود بن جلوي، وعبدالعزيز بن مساعد بن جلوي، وفهد بن عبدالله بن جلوي، وأصغرهم كان محمد بن عبدالله بن جلوي. وكانت تلك الرحلة الشاقة المضنية والتي تكبد فيها الإمام عبدالرحمن وابنه الصغير آنذاك عبدالعزيز وأفراد عائلته ونسائه، ومعأمراء آل جلوي، حيث كان على رأسهم الأمير عبدالله بن جلوي، والذي يُعد الساعد الأيمن والعضد القوي للملك عبدالعزيز وأمين سره، ورفيق دربه، وسيف من سيوفه، وصديق عمره، وهو من شهد الوقائع كلها ولم يتخلف وكان في مقدمة الصفوف في معركة المصمك التاريخية 1319هـ، حيث قتل عجلان وشطره نصفين بالوسط بسيفه ثم نودي الملك لله ثم لعبدالعزيز، وكانت جسارة وإقدام الأمير عبدالله بن جلوي وشجاعته بارزة ذكرتها ودونتها كتب التاريخ، ونقلتها شهادات من عاصر تلك الحقبة التاريخية، وقد شارك الأمير عبدالله بن جلوي الكثير من معارك التوحيد منها وقعة الخرج والحريق الأولى والثانية والثالثة والحوطة والسلمية والبكيرية الأولى والثانية وروضة مهنا والأشعلي الأولى والثانية، والمجمعة، وحريملاء والطرفية وبريدة، والهفوف ومعركة جراب، وكنزان الأولى والثانية، وفتح حائل والعيينة وفتح جدة وكان قائداً لعدد من السرايا فكان على رأس سرية إلى ثرمداء، حيث تمكّن من إخراج الحامية منها، وقد كان يفتخر به الملك عبدالعزيز وبشجاعته بين رجاله عندما يتحدث عن دخول المصمك، حيث يقول: «ثم دخل عبدالله بن جلوي والنار تنصب عليه وذبح عجلان».
ولاه الملك عبدالعزيز إمارة الأحساء عام 1331هـ وعرف بالقوة والمهابة وقوة الالتزام في تنفيذ أحكام الشرع الإسلامي والضرب بيد من حديد على أيدي العابثين بالأمن والمعتدين على الحرمات، واتسم عهده بالحزم والصرامة والإنصاف، وكان له هيبة في البوادي والحواضر، فبمجرد الإيحاء بذكر اسم «ابن جلوي» ترتعد الفرائس من قوته في الحق، وكرهه للظلم، وسرعة إمضائه للقصاص، وإنفاذه ورويت الكثير من القصص حول ذلك ما لا يتسع المجال لسردها في هذا المقال حتى أن الضالة لا تُمس ولا تمتد إليها يد أحد حتى تصل إلى صاحبها من سطوة الحق لابن جلوي -رحمه الله- ولو كان ذهباً أو مالاً في مجاهل الصحراء أو رمال الدهناء، وكان وقته مخصصاً بين العبادة والجلوس للناس واستقبال عرائضهم لا أقول مظالمهم لندرتها في عهده الذي اتسم بالعدل والإنصاف، وقد عرف منذ صغره بالتدين والصدق والأمانة والنزاهة وعفة اليد واللسان، والشجاعة والكرم وما في يده ليس له، وكان كريماً مضيافاً لا يأكل وحده ولا يحب التكلّف مقتصداً في أموره كلها، وكانت له علاقات وطيدة مع شيوخ القبائل وأمراء الأقاليم وكان محل تقدير وإجلال خاص منهم، وأستمر في عمل الإمارة حتى توفي في الأحساء، وهو على رأس العمل عام 1354هـ، وله من الأبناء أحد عشر هم: عبدالعزيز وهو أسنهم، وسعود، ومحمد «الأول»، وناصر، وفهد، وعبدالمحسن، ومحمد «الثاني»، وسعد، وتركي، ومنصور، وسلطان، وبنت واحدة.
وكان -رحمه الله- من الرجال الذي تناط بهم المهام الكبار، فيقوم بها خير قيام بأمانة ونزاهة وشجاعة واقتدار، وخلفه بعد وفاته على إمارة الأحساء ابنه الأمير سعود بن عبدالله بن جلوي والذي ولد في السنة التي استردت بها الرياض 1319هـ، فكان صوابيه في الشجاعة والإقدام والنزاهة والصرامة في الحق، وقد رباه والده على الفروسية وحياة الصحراء الخشنة، واصطحبه معه وعلمه فنون القتال بعد أن ظهرت فيه مخائيل الرجولة والنباهة فكان شديد البأس لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يرحم من تسوّل له نفسه العبث بالأمن أو إحداث القلاقل والفتن والاعتداء على الممتلكات ولو كان من أبنائه أو أحد أفراد أسرته وهذا الموروث الأخلاقي الذي توارثه الأبناء عن الآباء كان الأمير عبدالله بن جلوي من أقوى المؤثرات في هذا التكوين التربوي لأثر التربية التي أسس بها التربية في تكوينهم وصقل شخصياتهم وطباعهم من خلال النشأة التي نشأ فيها أبناؤه ونقلوا تجلياتها لأبنائهم جيل بعد جيل، وقد ظل المؤرّخين والباحثين ومنهم: «فيلبي والريحاني والزركلي ومحمد أسد وديكسون وأرمسترونغع وفان يوجولن» يشيرون في كتاباتهم إلى ملمح من ملامح شخصية الأمير عبدالله بن جلوي وعلاقته مع الملك عبدالعزيز وبأسلوبه الحازم والأبوي مسطرين بعضاً من أدواره التي قام بها.
أن الأمراء عبدالله بن جلوي وابنه الأمير سعود والأمير مشاري بن سعود والأمير مساعد بن جلوي، وابنه الأمير عبدالعزبز بن مساعد بن جلوي ومن جاء من بعدهم من ذرياتهم وخاصة من تقلد الإمارة منهم يكتسبون مهارة إدارية وقيادية فذة ويتبارون في تقديم كفاءة الاستحقاق للإمارة وهيبتها، ولديهم الاستعداد الفطري في محاكاة الفروسية والرجولة والعمل على الانضواء لخدمة راية التوحيد، والسمع والطاعة لولاة الأمر، وهو أمر طبيعي بحكم الوراثة والبيئة التي نشأوا فيها والتربية المتجانسة التي تلقوها أباً عن جد فكان لهم هذا الصوت المشع من السمعة والشهرة والثقة على مر التاريخ السعودي، فكانوا على قدر المسؤولية في توطيد دعائم الأمن والاستقرار في إقليم الأحساء والمنطقة الشرقية وحائل في عهد الملك المؤسس عبدالعزيز - طيّب الله ثراه - حتى أصبح اسمهم رمزاً يلوح كلما ذكرت هذه الأقاليم، إذ كان أوائلهم خير سواعد عضدت يمين الملك المؤسس أيام بناء الدولة السعودية الحديثة وعلى رأسهم الأمير الشجاع عبدالله بن جلوي الذي أخلص وأحب ابن عمه الملك عبدالعزيز وكان ذراعه الأيمن، إنها ذرية الأمير جلوي بن تركي وأبناوه الأمراء: سعود ومساعد وعبدالعزيز وعبدالله وفهد وعبدالمحسن ومحمد ومنصور ومشاري وسعد، إذ خرج من رحم هذه الأسرة رجال تركوا لهم بصمات ومواقف في التاريخ السعودي، وإليكم ترجمة لأبرز هؤلاء وهو الأمير عبدالله بن جلوي -رحمه الله-.
عبدالله بن جلوي بن تركي آل سعود
1287- 1354هـ (1870-1935م)
هو الأمير عبدالله بن جلوي ابن الإمام تركي بن عبدالله ابن الإمام محمد بن سعود بن محمد بن مقرن آل سعود، ولد في مدينة الرياض عام 1287هـ (1870م)، ونشأ في رعاية وكنف والده الأمير جلوي الذي عرف بشدته وصرامته في تربية أبنائه، فرباهم على الرجولة والفروسية وخشونة الصحراء، حيث كانت مصدراً لترويض النفس على خوض غمار الحياة وتحمل أعبائها وقسوتها، وصقلها على تعلم فنون الصيد والنزال والقتال وركوب الخيل، فظهرت جسارته في سن مبكرة وكان يكبر الملك عبدالعزيز ببضع سنوات، وبعد خروج الإمام عبدالرحمن بن فيصل وأسرته من الرياض عام 1308هـ (1890م)، بقي الأمير عبدالله بن جلوي في الرياض، حيث كان مصدراً من مصادر المعلومات التي ترسل للإمام عبدالرحمن وابنه الملك عبدالعزيز وهم في مقر إقامتهم في الكويت قبل أن يلتحق بهم ويشارك في الملحمة البطولية عند استرداد الرياض عام 1319هـ (1902م) وكأن ابن جلوي في مقدمة أولئك الأبطال الذين رافقوه من الكويت، وكان محل استشارته في رسم خططه لدخول الرياض في منطقة تبْرين الواقعة بين قطر والربع الخالي وانطلق معه صوب الرياض في 11 رمضان سنة 1319هـ، يكنُّون نهاراً، ويدلجون ليلاً وعندما وضع خطته وقسم رجاله إلى ثلاث مجموعات كان الأمير عبدالله بن جلوي بالمجموعة الثالثة التي يقودها الملك عبدالعزيز التي دخلت الرياض في الخامس من شوال 1319هـ، وكان من أوائل من داهم بوابة قصر المصمك وقتل عجلان وعدد من أتباعه وهو كذلك من أوائل من بايع الملك عبدالعزيز بالملك عندما نودي به ملكاً بعد استرداد الرياض وكان عمره وقتذاك بالعشرينات، وكان الملك عبدالعزيز يعتمد عليه في الكثير من العمليات الحربية في توحيد أقاليم المملكة ومنها أنه كان يقوم بأدوار استنهاض همم بعض القبائل إلى الانضمام لقوات الملك عبدالعزيز، ولقد قام الملك عبدالعزيز بتكليفه بأن يرابط بقوات بين حوطة بني تميم والحريق عندما أراد استدراج ابن رشيد إلى مواجهة عسكرية مباشرة وشارك في وقعة الدلم عام 1320هـ، كما قاد سرية إلى ثرمداء وتمكن من دخولها ومحاصرة القصر الذي كانت فيه حامية ابن رشيد كما كان للأمير عبدالله بن جلوي حضوراً في ميدان الصراع الحاسم بضم القصيم، وكان على رأس سرية قوامها مئة رجل وحاصر قصر الإمارة بعنيزة حتى استسلمت في 5 محرم 1322هـ، كما شهد معارك البكيرية في شهر ربيع الثاني 1322هـ، والشنانة في 18 رجب 1322هـ، وروضة مهنا في 16 صف1324هـ وكان الأمير عبدالله بن جلوي من بين الرجال الأبطال الذين كانوا إلى جنب الملك عبدالعزيز في أرض المعركة حتى استقرت له الأوضاع في بلدان القصيم وتوابعها تحت راية الملك عبدالعزيز لذا عينه الملك عبدالعزيز على إمارة بريدة بعد انتزاعها من محمد أبا الخيل مباشرة لمعرفته بالصفات القيادية التي يتمتع بها ابن عمه الأمير عبدالله بن جلوي 1327هـ، كما كان للأمير عبدالله بن جلوي دوراً في توحيد منطقة الأحساء والقطيف حيث مكث مع الملك عبدالعزيز فترة في إقليم الأحساء حتى اطمئن إلى استتباب الأمور فيها، فعين عبدالله بن جلوي أميراً عليها وعاد الملك عبدالعزيز إلى الرياض في العشر الأواخر من رمضان حيث باشر الإمارة ابن جلوي في 20 رمضان 1331هـ واستمر في إمارتها حتى وفاته 1354هـ، وقد عُرف أبان إمارته لها بالقوة والمهابة والالتزام في تنفيذ أحكام الشرع الإسلامي دونما هوادة إذ لا تأخذه في الحق لومة لائم، فأتسم حكمه بالحزم والصرامة والإنصاف، وكانت له هيبة في البادية والحاضرة، وسطوة في الحق تُسمع صداها الفياض والقفاز وتتناقل رواياتها الركبان. فهو سيف عبدالعزيز في الحق وتوفير الأمن حتى أصبح مضرب المثل فيقال: «وين ابروح من حكم ابن جلوي»، إذ كان الأمر في بداية توحيد أجزاء المملكة يحتاج إلى أيدي قوية تقبض على زمام الأمور ونفرض النظام وتنفذ الشرع وهذه الصفات توافرت في شخصية الأمير عبدالله بن جلوي والذي عاش حياة الصحراء الخشنة المثيرة في وجدانه وطموحه يرنوا إلى الفروسية والرجولة والأفعال البطولية، والتي تتوق إليها نفسه منذ صغره فأصبح شخصية أسطورية، وكان لوالديه دوراً كبيراً في تربيته فوالده الأمير جلوي أسهم في أن يتعهده ويعوده على علوم المراجل والفروسية منذ نعومة اظفاره ، ووالدته، المشهورة بالشجاعة والحكمة (مزنة بنت منصور المطرودي) والذي ذهب إليها المثل المشهور «الله يرحم مزنه» لقصة يطول سردها تدل على مدى الشجاعة والدهاء التي تمتلكها، ومدى حلمها وإجارتها حتى لعدوها فكان لهذه القصة دوراً في أن تكون مطلباً للخطاب من فرسان العرب بعد أن شاع خبرها في المجالس فخطبها الأمير جلوي وأنجبت الأمير البطل عبدالله وأخوته فكانت أمراه بألف رجل.
توفي الأمير عبدالله بن جلوي بالأحساء عام 1354هـ، وخلف من الأبناء: فهد وسعود وعبدالمحسن ومحمد، وتعاقب على إمارة المنطقة الشرقية خلفاً له ابناه سعود وعبدالمحسن -رحمهم الله-.
** **
- فهد بن عبدالعزيز الكليب