عبده الأسمري
عاش ناطقا بالعمل مستنطقا بالنتيجة تواقا للإبداع متذوقًا للتطوير.. عمل بصمت فأحدث دويًا أيقظ الجمود التعليمي وخطط بهدوء فصنع ضجيجا نفض التجمد التربوي.. وقف بسلام وخطوات متزنة وعلى مسافة واحدة مع المثقفين والمختلفين.
قائد ملهم وتربوي مستلهم ورجل دولة فصل رداء فضفاض لأعماله فتوشحت بالأحقية وتطرزت بالأسبقية.
إنه وزير التربية والتعليم الأسبق الدكتور محمد أحمد الرشيد -رحمه الله- أحد أبرز رجالات الدولة وقيادات التعليم.
بمحيا رسمي وعينين واسعتين مكتظة بالإنصات يتوارد منها السمت وأناقة فريدة تعتمر شخصية متواضعة وحيادية وموضوعية ووجه مملوء بالحيوية ممتلئ بالأريحية وكاريزما غامرة بفضل الخلق عامرة بفصل الخطاب وصوت تتقاطر منه العربية الفصحى بامتثال ولهجة نجدية تتوارد منها الأمثال قضى الرشيد أربعة عقود في ميادين العمل الأكاديمي والقرار الوزاري وجها للابتكار ومثالا للاعتبار بين منازل الطين وسحن الطيبين في محافظة المجمعة قلب نجد «النابض» نشأ الرشيد طفلا مخطوفا إلى تنافس «الأوفياء» في حقول بلدته مشفوعا بمسؤولية باكرة كونه أكبر إخوته فتقلب بين «لذة البساطة» و»نعيم البراءة» فكان يراقب «صوت المطر» عبر نداءات المبشرين بقدومه عبر الأودية مراقبا حظوة الرضا في تقاسيم «الجيران» وسطوة المعروف في تلاحم القرويين بمنهج الأسرة الواحدة. منجذبا لكل معاني «التروحن الطفولي» مع رائحة الأرض وعبير المحاصيل وفحوى الجيرة في قريته التي كانت «حضنا مثاليا» لطفولة عصامية دفعته لأن يكون طالبًا صباحًا وراعي أغنام عصرًا وتاجرًا مساءً متشربًا «موجهات اليقين» في أحاديث والده و»موجبات الحنين» في حنان والدته..
تشبعت ذاكرة الرشيد بفلول العلماء في جوامع محافظته ومناشط النبلاء في متاجر قريته وصدى البارزين في قبيلته محفوفا بذكريات عمر أصيل مزجت المحاسن بالحسنى فعاش العفوية وتعانق مع التلقائية فكبر «سليم الصدر» نظيف اليد «شفيف التعامل عفيف اللسان محتفظا بأصول تربية وأسس صفاء ونقاء سريرة صقلته بالنبل وألهمته الطموح.
نال الرشيد بكالوريوس اللغة العربية من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1964م ثم ابتعث للخارج فتحصل على درجة الماجستير من جامعة انديانا بأمريكا عام 1969م. ثم الدكتوراه في إدارة التعليم العالي من جامعة أوكلاهوما بأمريكا عام 1392هـ
بدأ حياته العملية مدرسا بالمعهد العلمي بالرياض ثم عين معيدًا في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بمكة المكرمة ثم ترقى وتعين أستاذًا وعميد كلية التربية جامعة الملك سعود. ثم مديرا عاما لمكتب التربية العربي لدول الخليج 1979- 1988م. وأسهم في تأسيس جامعة الخليج العربي بالبحرين وشغل عدة عضويات في لجنة التخطيط الشامل للثقافة العربية. والمجلس التنفيذي للمجلس العالمي لإعداد المعلمين بأمريكا ومجلس الخدمة المدنية ومجلس إدارة مدارس الملك فيصل. وتم تعيينه عضوًا بمجلس الشورى السعودي عام 1414 وتم تعيينه عام 1995 وزيرا المعارف واستمر فيه حتى عام 2005. وألف الراحل كتب «التخطيط التربوي بوصفه عملية اجتماعية» و»التعليم العالي والتميز الاجتماعي» و»التعليم في أوقات العسر» وكتاب سيرة ذاتية بعنوان مسيرتي في الحياة.
تشرب الرشيد من معين «الكدح» فظل محاربًا للمدح طيلة حياته فتمسك بأصول الكينونة التي جعلته يحمل شعلة الدافعية ليضيء بها مسارب العتمة ويرفع لواء الوطنية ليملأ بها مشارب التنوير فسار متجاهلا اتهامات «سوء الظنون» متوافقا مع «تصالح ذاتي» ومصالحة معرفية دفعته لتشذيب الزوائد التربوية وتهذيب المنتجات التعليمية.
ما بين صفاء القرية وحضارة المدينة وضجيج الغربة ووسط أمنيات المستقبل ونتوءات الظروف أكمل الرشيد مشواره المحفوف بالمفارقات والمفترقات ليشكل حضوره الطاغي في سجلات العمل الوزاري وسطوره الممهورة بتوقيعه المشهورة بوقعه متسلحا باليقين رفيعا بعطائه مترفعا عن الجدال مترافعا عن «التربية» كقضية أولى.
ظل الرشيد بعد خروجه من بوابات المسؤولية كاتبًا ومثقفًا ومؤلفًا محتفظًا بعبير «التوهج» الذي صنعه وزاريًا متحفظًا على اختلافات أعداء التطور معه مواجهًا الاعتراض بالإعراض.. موجهًا بوصلة فكره نحو مؤشرات الرضا والقياس الاجتماعي والمقاييس الواقعية.
توفي رحمه الله في نوفمبر 2013 وووري جثمانه ثرى «الرياض» مخلفًا أرثًا معرفيًا وتراثًا فكريًا من خلال إنجازات متعددة وبصمات متجددة لا تزال حاضرة في ذاكرة الوطن واستذكار رفقاء دربه وموظفيه وتلامذته ناضرة في ثنايا «المناهج» ومحاضر القرار وخطط التربية ومخططات التعليم حيث ظلت أفكاره نفحات ونسائم توزع عبيرها في ميادين النماء التربوي تحت لواء جملته الشهيرة «وراء كل أمة عظيمة تربية عظيمة».